من سفن هالكة إلى سجن عائم للمهاجرين الغير شرعيين في بريطانيا … تاريخ يتكرر فوق الماء

السجن العائم في بريطانيا: حكاية القسوة من الماضي إلى الحاضر

 عرفت بريطانيا عبر تاريخها فكرة السجون العائمة أو ما يُعرف بالسفن السجنية، وهي ظاهرة ارتبطت أساسًا بظروف الاكتظاظ في السجون البرية وبالحاجة إلى حلول سريعة ورخيصة لاحتجاز أعداد كبيرة من السجناء. بدأت الفكرة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حين لجأت السلطات البريطانية إلى استخدام السفن المهجورة أو الخارجة من الخدمة كسجون طافية تُرسى في الموانئ، وكان الهدف منها استيعاب المجرمين أو أسرى الحرب أو حتى المدانين بجرائم صغيرة في فترة كانت السجون فيها ممتلئة بشكل يفوق طاقتها. وقد اشتهرت تلك السفن باسم "الهلك" أو "hulks"، وكانت ظروف المعيشة فيها شديدة القسوة حيث عاش السجناء في أماكن مكتظة مظلمة ورطبة، يعانون من الأمراض وسوء التغذية وانعدام الرعاية الصحية، حتى أن المؤرخين وصفوها بأنها جحيم عائم. ولم يكن الأمر مجرد حل مؤقت بل استمر لعقود طويلة، إذ ظلت هذه السفن جزءًا من نظام العقوبات البريطاني إلى أن أصبحت مستعمرات مثل أستراليا وجهة لنقل السجناء إليها، فخفّ العبء تدريجيًا عن تلك السفن.
ومع مرور الزمن وانتهاء عهد السفن الهلك، لم تختفِ الفكرة تمامًا. ففي نهاية القرن العشرين عاد مفهوم السجن العائم من جديد، حين قامت الحكومة البريطانية في عام 1997 باستئجار بارجة عُرفت لاحقًا باسم "سجن ويير" أو HMP Weare، ووُضعت في ميناء بورتلاند بجنوب إنجلترا. كان الهدف هذه المرة تخفيف الضغط الهائل على السجون البرية التي عانت من الاكتظاظ. استوعب هذا السجن قرابة أربعمائة سجين من فئة الحبس متوسطة الخطورة، وكانت البارجة في الأصل سفينة سكنية قبل أن تُحوَّل إلى سجن. وعلى الرغم من أنه بدا حلاً عمليًا، إلا أن الانتقادات سرعان ما بدأت تتوالى بسبب ارتفاع تكلفة التشغيل وظروف المعيشة غير الملائمة، حيث اشتكى السجناء من ضيق المساحة ورداءة التهوية وغياب الأنشطة الإصلاحية، كما اعتبره المفتش الأعلى للسجون غير مناسب وغير اقتصادي. واستمرت تجربة سجن ويير قرابة عقد قبل أن يُغلق نهائيًا عام 2006 ويُسحب من الخدمة.
لكن التجربة لم تتوقف عند هذا الحد، إذ عادت الصورة إلى الأذهان مجددًا في السنوات الأخيرة من خلال بارجة أخرى هي "بيبي ستوكهولم"، التي استُخدمت ابتداءً من عام 2023 كمكان لإيواء طالبي اللجوء في بريطانيا. ورغم أن الغرض المعلن لم يكن سجنيًا بحتًا بل لتوفير أماكن إقامة مؤقتة، إلا أن الكثيرين وصفوها بالسجن العائم بسبب القيود الصارمة وصعوبة الحياة فيها. أثيرت قضايا خطيرة بشأنها مثل اكتشاف بكتيريا خطيرة في مياهها، واندلاع احتجاجات من المنظمات الحقوقية، وصولًا إلى تسجيل حالة انتحار لطالب لجوء عاش فيها، مما أثار جدلاً واسعًا حول جدوى هذا النوع من الحلول. ومع استمرار الضغوط والانتقادات، أعلنت السلطات في يناير 2025 سحب البارجة بعد أقل من عامين على استخدامها، في تجربة وُصفت بالفاشلة بعدما كلفت خزينة الدولة عشرات الملايين من الجنيهات دون تحقيق الغرض المنشود.
إن فكرة السجن العائم في بريطانيا إذن ليست وليدة عصر واحد، بل انعكاس لأزمات متكررة في التعامل مع الاكتظاظ ومشكلات إدارة السجون. وبينما كانت في الماضي حلًا قاسيًا يُبرره عجز الدولة عن استيعاب السجناء، فإن محاولاتها المعاصرة لإحيائه أظهرت أن هذا النموذج، مهما بدا عمليًا من الناحية اللوجستية، يظل محفوفًا بالانتقادات الأخلاقية والإنسانية. هكذا أصبح السجن العائم رمزًا لتاريخ طويل من الصراع بين الحاجة إلى الأمن وإدارة العقوبات من جهة، واحترام كرامة الإنسان وحقوقه من جهة أخرى.

تعليقات