التبشير المسيحي في المغرب: بين الواقع والقيود
مقدمة
يُعتبر المغرب بلدًا ذا أغلبية مسلمة، حيث يشكل الإسلام جزءًا رئيسيًا من الهوية الوطنية والثقافية. ورغم ذلك، فإن الوجود المسيحي حاضر بأشكال متعددة، من خلال الجاليات الأجنبية أو بعض المغاربة المتحولين للمسيحية. خلال العقود الأخيرة، بدأت تظهر بوادر نشاطات تبشيرية مسيحية، بعضها يتم بطرق مباشرة، وأخرى أكثر سرّية، الأمر الذي أدى إلى ردود فعل متفاوتة من طرف الدولة والمجتمع. وقد شكّل عام 2010 لحظة فارقة في هذا السياق، حيث شهد المغرب واحدة من أبرز عمليات الطرد الجماعي للمبشرين.
عرض
1. خلفية تاريخية عن التبشير في المغرب
يعود النشاط التبشيري في المغرب إلى أواخر القرن التاسع عشر، حين دخلت بعض البعثات المسيحية الإنجيلية إلى شمال إفريقيا تحت غطاء المساعدات الاجتماعية وتوزيع الأناجيل. بعد الاستعمار الفرنسي والإسباني، تم تقنين النشاط الكنسي، لكن بعد الاستقلال عام 1956، تم التشديد على هذه الأنشطة مع بروز قوانين تجرّم التبشير العلني.
في العصر الحديث، عادت بعض هذه الأنشطة، خصوصًا مع قدوم مهاجرين من دول إفريقيا جنوب الصحراء، والذين جلبوا معهم ثقافتهم المسيحية. وقد ظهرت في عدة مدن مغربية "كنائس منزلية" تُقام فيها صلوات واجتماعات دينية بعيدة عن أنظار السلطات.
2. حادثة طرد عام 2010: محطة فاصلة
في مارس 2010، قامت السلطات المغربية بطرد أكثر من ثلاثين مبشرًا أجنبيًا، أغلبهم كانوا يعملون في مركز لرعاية الأطفال يُدعى "قرية الأمل" قرب مدينة عين اللوح بإقليم إفران. وُجهت إليهم تهم تتعلق بمحاولة زعزعة عقيدة الأطفال المسلمين والتبشير بطريقة غير قانونية.
هذه الحادثة خلّفت صدمة في الأوساط المسيحية، خاصة وأن بعض المبعدين كانوا قد أمضوا سنوات طويلة في العمل الإنساني بالمغرب. الدولة من جهتها أكدت أن الإجراءات قانونية، مستندة إلى المادة 220 من القانون الجنائي، التي تُجرّم أي محاولة للتأثير على عقيدة مسلم أو دفعه لتغيير دينه.
لم تكن هذه الحادثة الوحيدة، بل تبعتها عمليات ترحيل أخرى في مدن مثل مراكش وفاس وطنجة، شملت أفرادًا يُشتبه في تورطهم في التبشير غير المرخّص.
3. معهد "الموافقة": بين الحوار والتقنين
بعد توتر العلاقات بين الدولة وبعض الكنائس، تم إنشاء "معهد الموافقة" في الرباط عام 2012، كمبادرة مشتركة بين الكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية بالمغرب. يهدف هذا المعهد إلى تقديم تكوين أكاديمي ولاهوتي للراغبين في فهم المسيحية بشكل علمي، وتنظيم الحضور المسيحي داخل المغرب في إطار يحترم القانون.
يلعب المعهد دورًا في تقوية التواصل بين الكنائس الرسمية والدولة، وهو مركز لتكوين القساوسة وتبادل الخبرات بين المسيحيين من داخل وخارج المغرب. يسعى المعهد إلى تقديم نموذج مسيحي يحترم الخصوصية الدينية للمجتمع المغربي، دون الدخول في أنشطة تبشيرية علنية أو استفزازية.
4. واقع الكنائس المنزلية والمسيحيين المغاربة
إلى جانب الكنائس المعترف بها رسميًا والتي تخدم الجاليات الأجنبية، توجد أيضًا "كنائس منزلية" غير رسمية، أغلبها في الرباط، الدار البيضاء، مراكش، أكادير وفاس. يُديرها مهاجرون من دول إفريقية، وتُقام فيها الصلوات والاحتفالات الدينية في شقق سكنية خاصة.
كما يوجد مغاربة تحولوا إلى المسيحية، ويقدر عددهم بالآلاف حسب بعض التقديرات غير الرسمية، رغم أن أغلبهم يخفون عقيدتهم لتجنب المشاكل الاجتماعية أو القانونية. هؤلاء يطالبون اليوم بترسيخ حقوقهم في حرية المعتقد، والزواج الكنسي، وفتح كنائس مخصصة لهم، وإلغاء تجريم التبشير.
ورغم هذه المطالب، لا يزال القانون المغربي صارمًا في ما يتعلق بمحاولة تغيير عقيدة المسلمين، وهو ما يجعل ممارسة المسيحية بالنسبة للمغاربة المتحولين تتم غالبًا في الخفاء.
5. المجتمع المدني ومواقف المغاربة
الرأي العام المغربي يختلف في تعامله مع هذه الظاهرة. فهناك من يرى في التبشير تهديدًا لهوية البلاد الإسلامية، خاصة عندما يتم تحت غطاء العمل الخيري. وهناك من يعتبر أن حرية المعتقد حق شخصي يجب احترامه، خاصة في ضوء تطور النقاشات حول الحريات الفردية في المغرب.
وفي مواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات، يُعبر بعض المغاربة عن رفضهم الشديد لأي نشاط تبشيري، معتبرين أن الدين لا يجب أن يُفرض أو يُباع عبر المساعدات. بينما يرى آخرون، خصوصًا من الشباب، أن الاعتناق الديني مسألة ضمير فردي، ولا يجب أن تُقابل بالقمع أو النبذ الاجتماعي.
خاتمة
يتضح أن موضوع التبشير في المغرب محاط بالكثير من الحساسية، نظرًا لطبيعته الدينية والثقافية والسياسية. فالدولة تحاول الحفاظ على توازن بين احترام التعددية الدينية من جهة، وصيانة الهوية الإسلامية من جهة أخرى. حادثة الطرد سنة 2010 كانت لحظة حاسمة أعادت ترتيب العلاقة بين الكنائس والدولة، ودفعت إلى ظهور كيانات مثل معهد "الموافقة" الذي يعبّر عن محاولة للتعايش في إطار قانوني مضبوط.
ورغم القيود القانونية والمجتمعية، فإن النشاط المسيحي لم يتوقف، بل أصبح أكثر سرية وتنظيمًا، خاصة في ظل وجود المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء. أما المسيحيون المغاربة، فإنهم يواجهون تحديات مزدوجة: قانونية واجتماعية، لكنهم بدأوا يظهرون صوتهم أكثر في النقاش العمومي، مطالبين بحقوقهم في إطار حرية المعتقد التي يكفلها الدستور.
يبقى مستقبل التعايش الديني في المغرب رهينًا بالتطورات القانونية والاجتماعية، وبقدرة كل طرف على احترام حدود الآخر دون تجاوزات، في ظل دولة تحاول إدارة التنوع بحذر ومسؤولية.
مقدمة
يُعتبر المغرب بلدًا ذا أغلبية مسلمة، حيث يشكل الإسلام جزءًا رئيسيًا من الهوية الوطنية والثقافية. ورغم ذلك، فإن الوجود المسيحي حاضر بأشكال متعددة، من خلال الجاليات الأجنبية أو بعض المغاربة المتحولين للمسيحية. خلال العقود الأخيرة، بدأت تظهر بوادر نشاطات تبشيرية مسيحية، بعضها يتم بطرق مباشرة، وأخرى أكثر سرّية، الأمر الذي أدى إلى ردود فعل متفاوتة من طرف الدولة والمجتمع. وقد شكّل عام 2010 لحظة فارقة في هذا السياق، حيث شهد المغرب واحدة من أبرز عمليات الطرد الجماعي للمبشرين.
عرض
1. خلفية تاريخية عن التبشير في المغرب
يعود النشاط التبشيري في المغرب إلى أواخر القرن التاسع عشر، حين دخلت بعض البعثات المسيحية الإنجيلية إلى شمال إفريقيا تحت غطاء المساعدات الاجتماعية وتوزيع الأناجيل. بعد الاستعمار الفرنسي والإسباني، تم تقنين النشاط الكنسي، لكن بعد الاستقلال عام 1956، تم التشديد على هذه الأنشطة مع بروز قوانين تجرّم التبشير العلني.
في العصر الحديث، عادت بعض هذه الأنشطة، خصوصًا مع قدوم مهاجرين من دول إفريقيا جنوب الصحراء، والذين جلبوا معهم ثقافتهم المسيحية. وقد ظهرت في عدة مدن مغربية "كنائس منزلية" تُقام فيها صلوات واجتماعات دينية بعيدة عن أنظار السلطات.
2. حادثة طرد عام 2010: محطة فاصلة
في مارس 2010، قامت السلطات المغربية بطرد أكثر من ثلاثين مبشرًا أجنبيًا، أغلبهم كانوا يعملون في مركز لرعاية الأطفال يُدعى "قرية الأمل" قرب مدينة عين اللوح بإقليم إفران. وُجهت إليهم تهم تتعلق بمحاولة زعزعة عقيدة الأطفال المسلمين والتبشير بطريقة غير قانونية.
هذه الحادثة خلّفت صدمة في الأوساط المسيحية، خاصة وأن بعض المبعدين كانوا قد أمضوا سنوات طويلة في العمل الإنساني بالمغرب. الدولة من جهتها أكدت أن الإجراءات قانونية، مستندة إلى المادة 220 من القانون الجنائي، التي تُجرّم أي محاولة للتأثير على عقيدة مسلم أو دفعه لتغيير دينه.
لم تكن هذه الحادثة الوحيدة، بل تبعتها عمليات ترحيل أخرى في مدن مثل مراكش وفاس وطنجة، شملت أفرادًا يُشتبه في تورطهم في التبشير غير المرخّص.
3. معهد "الموافقة": بين الحوار والتقنين
بعد توتر العلاقات بين الدولة وبعض الكنائس، تم إنشاء "معهد الموافقة" في الرباط عام 2012، كمبادرة مشتركة بين الكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية بالمغرب. يهدف هذا المعهد إلى تقديم تكوين أكاديمي ولاهوتي للراغبين في فهم المسيحية بشكل علمي، وتنظيم الحضور المسيحي داخل المغرب في إطار يحترم القانون.
يلعب المعهد دورًا في تقوية التواصل بين الكنائس الرسمية والدولة، وهو مركز لتكوين القساوسة وتبادل الخبرات بين المسيحيين من داخل وخارج المغرب. يسعى المعهد إلى تقديم نموذج مسيحي يحترم الخصوصية الدينية للمجتمع المغربي، دون الدخول في أنشطة تبشيرية علنية أو استفزازية.
4. واقع الكنائس المنزلية والمسيحيين المغاربة
إلى جانب الكنائس المعترف بها رسميًا والتي تخدم الجاليات الأجنبية، توجد أيضًا "كنائس منزلية" غير رسمية، أغلبها في الرباط، الدار البيضاء، مراكش، أكادير وفاس. يُديرها مهاجرون من دول إفريقية، وتُقام فيها الصلوات والاحتفالات الدينية في شقق سكنية خاصة.
كما يوجد مغاربة تحولوا إلى المسيحية، ويقدر عددهم بالآلاف حسب بعض التقديرات غير الرسمية، رغم أن أغلبهم يخفون عقيدتهم لتجنب المشاكل الاجتماعية أو القانونية. هؤلاء يطالبون اليوم بترسيخ حقوقهم في حرية المعتقد، والزواج الكنسي، وفتح كنائس مخصصة لهم، وإلغاء تجريم التبشير.
ورغم هذه المطالب، لا يزال القانون المغربي صارمًا في ما يتعلق بمحاولة تغيير عقيدة المسلمين، وهو ما يجعل ممارسة المسيحية بالنسبة للمغاربة المتحولين تتم غالبًا في الخفاء.
5. المجتمع المدني ومواقف المغاربة
الرأي العام المغربي يختلف في تعامله مع هذه الظاهرة. فهناك من يرى في التبشير تهديدًا لهوية البلاد الإسلامية، خاصة عندما يتم تحت غطاء العمل الخيري. وهناك من يعتبر أن حرية المعتقد حق شخصي يجب احترامه، خاصة في ضوء تطور النقاشات حول الحريات الفردية في المغرب.
وفي مواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات، يُعبر بعض المغاربة عن رفضهم الشديد لأي نشاط تبشيري، معتبرين أن الدين لا يجب أن يُفرض أو يُباع عبر المساعدات. بينما يرى آخرون، خصوصًا من الشباب، أن الاعتناق الديني مسألة ضمير فردي، ولا يجب أن تُقابل بالقمع أو النبذ الاجتماعي.
خاتمة
يتضح أن موضوع التبشير في المغرب محاط بالكثير من الحساسية، نظرًا لطبيعته الدينية والثقافية والسياسية. فالدولة تحاول الحفاظ على توازن بين احترام التعددية الدينية من جهة، وصيانة الهوية الإسلامية من جهة أخرى. حادثة الطرد سنة 2010 كانت لحظة حاسمة أعادت ترتيب العلاقة بين الكنائس والدولة، ودفعت إلى ظهور كيانات مثل معهد "الموافقة" الذي يعبّر عن محاولة للتعايش في إطار قانوني مضبوط.
ورغم القيود القانونية والمجتمعية، فإن النشاط المسيحي لم يتوقف، بل أصبح أكثر سرية وتنظيمًا، خاصة في ظل وجود المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء. أما المسيحيون المغاربة، فإنهم يواجهون تحديات مزدوجة: قانونية واجتماعية، لكنهم بدأوا يظهرون صوتهم أكثر في النقاش العمومي، مطالبين بحقوقهم في إطار حرية المعتقد التي يكفلها الدستور.
يبقى مستقبل التعايش الديني في المغرب رهينًا بالتطورات القانونية والاجتماعية، وبقدرة كل طرف على احترام حدود الآخر دون تجاوزات، في ظل دولة تحاول إدارة التنوع بحذر ومسؤولية.