الملك محمد السادس يسحب ملف الدعم الفلاحي من وزارة أخنوش ويُسنده للداخلية

إعادة توزيع الدعم الفلاحي: تدخل ملكي لإنهاء الفساد وتحقيق العدالة للفلاحي

في الآونة الأخيرة، وبشكل مفاجئ نسبياً بالنسبة للرأي العام، تم تداول خبر مفاده أن الملك محمد السادس قد قرر سحب ملف الدعم الفلاحي، وتحديداً دعم القطيع الذي يشمل الأغنام والأبقار، من وزارة الفلاحة التي ظلت لعقود الجهة المشرفة عليه بشكل حصري، ليُسند هذا الملف ابتداءً من هذه السنة إلى وزارة الداخلية، عبر السلطات الترابية، وخاصة عبر الولاة والعمال والقياد الذين سيتولون الإشراف المباشر على هذا النوع من الدعم. هذا القرار لم يكن عادياً، بل حاملاً لعدة رسائل سياسية ومؤسساتية عميقة، كونه جاء في سياق يتسم باحتقان اجتماعي، وارتفاع أسعار المواد الأساسية، وتزايد حدة الانتقادات الموجهة لحكومة عزيز أخنوش، الذي كان يشرف مباشرة، باعتباره وزيراً للفلاحة سابقاً، على هذه البرامج ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي.
القصة بدأت فعلياً حين تفجرت قضية أصبحت تعرف إعلامياً بـ"فضيحة الفراقشية"، وهي فضيحة تتعلق بوجود اختلالات وتجاوزات كبيرة في توزيع الدعم الموجه إلى الفلاحين الصغار لتشجيع تربية القطيع، حيث تبين أن هناك ممارسات غير قانونية، بل ووُصفت من قبل بعض المصادر بأنها "نصابة ممنهجة" سمحت لجهات معينة بالحصول على أموال ضخمة من هذا الدعم، رغم أنهم لا يستحقونه، في حين حُرم الفلاح البسيط، الذي يعاني الأمرّين بسبب الجفاف وغلاء الأعلاف، من هذا الدعم الحيوي. هذه الفضيحة، التي بلغت حسب بعض التقديرات ما يقارب 13 مليار درهم، أثارت غضباً شعبياً واسعاً، خاصة أن الفلاحين في العديد من المناطق القروية كانوا يشتكون منذ سنوات من تهميشهم، ومن صعوبة الوصول إلى الدعم رغم كثرة الوعود الحكومية.
في ظل هذا الواقع المتأزم، جاء القرار الملكي ليضع حداً لهذا الوضع غير المقبول، حيث تم بشكل رسمي نقل صلاحيات تدبير ملف الدعم إلى وزارة الداخلية، التي ستشرف من الآن فصاعداً على تحديد المستفيدين من هذه الإعانات عبر لجان محلية مكونة من ممثلي السلطات الترابية والمصالح التقنية، دون إشراك مباشر لوزارة الفلاحة أو للجهات السياسية التي كانت تستغل هذا الملف لغايات انتخابية أو فئوية. وبهذا يكون الملك قد أرسل رسالة واضحة، مفادها أن المال العام يجب أن يُصرف بالعدل والإنصاف، وأن الفساد أو سوء التدبير في برامج الدعم لن يُسمح باستمراره تحت أي غطاء كان، سواء أكان سياسياً أو إدارياً.
هذا القرار لم يُقرأ فقط في بعده الإداري أو التنظيمي، بل كان له وقع سياسي لافت، حيث اعتبر العديد من المراقبين أن الخطوة تعني بشكل غير مباشر سحب الثقة من الوزير السابق للفلاحة، رئيس الحكومة الحالي عزيز أخنوش، خاصة وأنه ظل لسنوات طويلة يتربع على رأس هذا القطاع الحساس، وتمت في عهده العديد من البرامج والاستراتيجيات الكبرى من قبيل "مخطط المغرب الأخضر" و"الجيل الأخضر"، وهي مشاريع رُصدت لها ميزانيات ضخمة لكنها لم تحقق – في نظر فئات واسعة من المواطنين – العدالة الاجتماعية المنشودة. وهنا يمكن القول إن سحب ملف بهذا الحجم من وزارة الفلاحة وإسناده إلى وزارة الداخلية، التي لا تخضع لنفس المنطق الحزبي، يُعتبر بمثابة تقليص لنفوذ أخنوش داخل الدولة، وتأكيد على أن مؤسسة الملك تتابع عن كثب كيفية تدبير الملفات الحيوية، وتتصدى فوراً لأي انحراف أو خلل يمس بمصالح المواطنين.
من زاوية أخرى، فإن هذا القرار يكرس مرة أخرى الدور المتعاظم الذي أصبحت تلعبه وزارة الداخلية في تدبير الشأن العام، حيث باتت الجهة الأكثر حضوراً وفعالية في عدد من الملفات ذات الطابع الاجتماعي، سواء تعلق الأمر بتوزيع الدعم المباشر، أو بتنفيذ مشاريع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، أو بتدبير ملف دعم السكن، واليوم، تضيف إلى ذلك مهمة جديدة تتعلق بالإشراف على الدعم الفلاحي، مما يجعلها، عملياً، الوزارة الأكثر تأثيراً في حياة المواطنين اليومية، متجاوزة بذلك الأدوار التقليدية للوزارات القطاعية التي تخضع في كثير من الأحيان لحسابات حزبية أو انتخابية.
ولم يكن هذا التحول في المشهد مفاجئاً بالكامل لمن يتابع تفاصيل السياسة المغربية، إذ أن مؤسسة الملك دأبت، منذ سنوات، على التدخل كلما تعذر على الحكومة القيام بمهامها في بعض الملفات الحساسة، سواء تعلق الأمر بصندوق المقاصة، أو برامج الدعم الاجتماعي، أو اليوم بالدعم الفلاحي. ومن هنا يمكن فهم هذا القرار في سياق أشمل، يتعلق بإعادة هيكلة العلاقة بين مؤسسات الدولة، خاصة في ظل تراجع منسوب الثقة الشعبية في الأحزاب السياسية، وضعف الأداء الحكومي، الأمر الذي يدفع الملك في بعض الأحيان إلى التدخل لضمان السير السليم للمرافق العمومية.
والجدير بالذكر أن هذا القرار يأتي كذلك في ظرفية اقتصادية واجتماعية صعبة، حيث لا تزال تبعات الجفاف، وغلاء الأسعار، وضعف القدرة الشرائية تؤرق الأسر المغربية، خاصة في العالم القروي، الذي يُفترض أن يكون المستفيد الأول من الدعم الفلاحي. ومن هنا فإن هذا التغيير في طريقة توزيع الدعم يمثل أملاً جديداً للفلاح البسيط، الذي ظل لسنوات طويلة يعاني في صمت دون أن تصل إليه البرامج التي كانت تُعلن عنها الحكومات المتعاقبة.
ومع أن القرار الملكي لقي ترحيباً واسعاً في الأوساط الشعبية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، فإن الكثيرين ينتظرون كيف سيتم تنزيله على أرض الواقع، وهل ستتم فعلاً مراقبة هذه اللجان المحلية ومنع أي تلاعب أو محسوبية في تحديد المستفيدين من الدعم، أم أن النظام الجديد سيعيد إنتاج نفس الممارسات القديمة ولكن بوجوه جديدة. فالتحدي اليوم لا يقتصر فقط على نقل الصلاحيات، بل يكمن في وضع آليات شفافة، ومراقبة صارمة، وربط المسؤولية بالمحاسبة، حتى يشعر المواطن بأن هناك تغييراً حقيقياً وليس فقط إعادة توزيع للسلطة بين الوزارات.
وفي الأخير، يمكن القول إن ما حدث لا يتعلق فقط بملف دعم القطيع، بل يعكس تحوّلاً أعمق في طبيعة إدارة الدولة المغربية للملفات الاجتماعية والاقتصادية، ويؤشر على رغبة عليا في القطع مع الممارسات التي تُفرغ الدعم من محتواه الاجتماعي، وتحوله إلى أداة لتكريس الفوارق والزبونية. وهو تحوّل، إن استُكمل بشفافية وصرامة، يمكن أن يمثل نقطة انطلاق جديدة نحو عدالة مجالية واقتصادية حقيقية، يكون فيها الفلاح الصغير والمواطن البسيط في قلب الاهتمام، لا فقط في شعارات الخطابات الرسمية، بل في تفاصيل السياسات اليومية على الأرض.
تعليقات