قصة العالم المغربي الذي أعاد للعلم هيبته وواجه الاستعمار بالفكر
وُلد أبو شعيب الدكالي في قرية الصديقات بإقليم دكالة عام 1878 في بيت علم وتقوى، وكان والده من أهل القرآن، شديد الحرص على أن يتربى ابنه في حضن الدين والعلم، وقد قال عنه حين ولد: هذا الولد هو دعائي المستجاب. نشأ أبو شعيب في بيئة فلاحية بسيطة، لكنها كانت عامرة بالحفظ والتلاوة وحلقات الذكر، حيث كانت الكتاتيب القرآنية منتشرة في دكالة، فحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب قبل أن يبلغ الثانية عشرة، ثم بدأ بحفظ المتون كالأجرومية، والآجرومية، والألفية، وهو لا يزال صغير السن، مما جعل الناس في قبيلته ينظرون إليه بإكبار.
كان ذكاؤه لافتًا منذ الصغر، يتنقل بين العلماء ليسمع ويتعلم، وكان لديه شغف غريب بالحديث النبوي، فقد وُصف بأنه كان يكرر حديثًا واحدًا عشرات المرات، ويتدبر سنده ومتنَه حتى يُتقنه تمامًا. ولما بلغ السادسة عشرة، صار يُدرِّس في حلقات صغيرة بعض طلبة العلم الأصغر سنًّا منه، وكان إذا تكلم لا يقاطعه أحد من فرط هيبته وعمق منطقه. توفي والده وهو لا يزال شابًا، فاحتضنه عمه وحرص على أن يُتم له مشواره العلمي، خاصة أن أبو شعيب كان قد أبدى رغبة جامحة في طلب العلم خارج بلده.
وفي أواخر تسعينيات القرن التاسع عشر، قرر أن يشد الرحال إلى المشرق العربي، فقصد مصر، وهناك التحق بالأزهر الشريف، وكان الأزهر آنذاك قبلة العلماء والأدباء والمجددين. برز نبوغه في وقت قصير، حتى صار من بين أشهر طلبة العلم الوافدين، وتعرف على الشيخ محمد عبده، وتأثر بروحه الإصلاحية، كما تتلمذ على يد الشيخ سليم البشري، الذي أجازه في الحديث، وكان يقول عنه: أبو شعيب لا يسأل السؤال المعتاد، بل يأتيك بسؤال من زاوية لا تخطر لك على بال. وقد شهد له أقرانه في مصر بأنه كان يتمتع بذاكرة حديدية، يُقلّب الكتب فيسرد ما فيها من أحاديث وسياقات دون أن يخطئ.
لم يطل به المقام في مصر، حتى استدعاه أمير مكة المكرمة حينها، فعُيِّن خطيبًا وإمامًا بالحرم، ثم قاضيًا، ثم تولى تدريس الحديث والتفسير في حلقات المسجد الحرام. وقد عُرف بين أهل الحجاز بلقب المغربي الفقيه، وكان أهل مكة يقولون: هذا الرجل إذا تكلم لا تُشتمُّ رائحة التعصب في حديثه، بل لا يُسمع منه إلا الحجة والدليل والخلق الكريم. وعاش في مكة سنوات من العطاء العلمي الكبير، إذ كان يجمع بين الدروس، والفتوى، والإمامة، وكان الناس يفدون إليه من الهند واليمن والشام، بل ومن المغرب نفسه.
لكن قلبه ظل متعلقًا ببلده الأم، فاستأذن من أمير مكة للعودة، وعاد إلى المغرب في وقت حساس سياسيًا ودينيًا، حيث بدأ الاستعمار الفرنسي يزحف على البلاد. ما إن وطئت قدماه تراب الوطن حتى احتفى به السلطان عبد الحفيظ، فعينه في مناصب علمية وقضائية عالية، وأناط به مسؤولية إصلاح التعليم، وكان أول من أُطلق عليه لقب شيخ الإسلام في المغرب الحديث. بدأ فورًا في بث علوم الحديث بين الناس، وأحيا ما كاد أن يندثر من تدريس تفسير القرآن، فكان أول من تجرأ على تفسيره علنًا بعد أن كانت هناك خرافة تقول إن من فسر القرآن يموت السلطان، فأعلن من فوق منبر القرويين: بسم الله نفسر القرآن ولا يموت السلطان.
وانطلق في إصلاح شامل لمنظومة القضاء والتعليم، ففرض امتحانات على القضاة، واشترط العلم على كل من يتقلد منصبًا شرعيًا، وبدأ في تنظيم دروس علمية في المساجد الكبرى كالجامع الأعظم بفاس، وكان لا يقبل التسيب في حلقات الدرس، فكان يبدأ على الساعة ويختم على الساعة، ولا يرضى بحديث خارج الموضوع، مما جعله موضع إعجاب وتقدير بين تلامذته. وقد تأثر به كثيرون، وصار له تلاميذ يواصلون النهج العلمي ذاته، أبرزهم عبد الله كنون، وعبد الله الجراري، ومحمد بن العربي العلوي، وغيرهم كثير ممن صاروا رموزًا في المغرب لاحقًا.
كان الشيخ أبو شعيب يجمع بين السلفية المنهجية، والروح المغربية المالكية، لم يكن متعصبًا، بل كان يقول دائمًا إن الحق أحق أن يُتبع، وإن تقليد العلماء لا يُغني عن النظر في الدليل. وكان يحذر من الجمود الفكري، ويحض طلابه على النقد والتمحيص، حتى إنه كان يقول لهم: إذا سمعت مني ما خالف حديث رسول الله فاضربوا بقولي عرض الحائط. وقد واجه مقاومة من بعض مشايخ الطرق الصوفية الذين اعتبروا دعوته عودة إلى التشدد، لكنه ظل على خطه في الإصلاح، لا يتوقف ولا يلتفت.
عُرف عنه الزهد والتقشف، فكان يعيش عيشة بسيطة جدًا، رغم ما عُرض عليه من أموال ومناصب. وكان لا يأكل إلا من كسب يده، ويرفض الهدايا من أصحاب النفوذ. وفي أحد المواقف، أرسل إليه أحد القواد الاستعماريين هدية، فردها إليه مع رسالة تقول: إن العالم لا يُشترى، وإن كرامة الدين لا تُساوَم. وكان الناس يهابونه ويحبونه في الوقت ذاته، إذ لم يُعرف عنه أنه سب أحدًا، أو طعن في عرض أحد، بل كان يرد على خصومه بالحجة والرفق.
ومن أبرز مواقفه التاريخية، رفضه العلني للظهير البربري، الذي كان يهدف لتقسيم المغرب بين عرب وأمازيغ وفصلهم عن الشريعة الإسلامية. وقد قال حينها: لسنا عربًا ولا أمازيغًا، نحن أمة محمد، وشريعتنا من عند الله، لا من فرنسا. وشارك في إصدار بيان العلماء الذي كان شرارة انطلاق الحركة الوطنية لاحقًا. ورغم أنه لم يكن يحمل السلاح، فقد كان خصمًا عنيدًا للمشروع الاستعماري، حيث كان يفضح خطط الفرنسيين في دروسه، ويربي الشباب على الاستمساك بالهوية واللغة والدين.
وقد أحبه السلطان محمد الخامس كثيرًا، وكان يجلس بين يديه ويقول له: نحن نتعلم منك كيف نحكم بين الناس، فالعلم وحده هو ما يبني الأمم. وكان يردد أن الملوك بلا علماء كالسفن بلا ربان، وأن الأمة التي لا تُعلي شأن العلماء، تموت ببطء.
لم يترك مؤلفات كثيرة، لكنه ترك طلابًا يُعدّون بالآلاف، وترك أثرًا لا يُنسى في الذاكرة المغربية. ويُروى أنه في أيامه الأخيرة، حين اشتد به المرض، قال لتلاميذه: لا تحزنوا، فإن العالم يموت جسده، لكن علمه لا يموت، وإذا سارت دعوة الحق، فلا يهم من يحملها. وتوفي رحمه الله سنة 1937، وخرجت جنازته مهيبة حضرها السلطان والعلماء والطلبة والناس من كل جهة، ودفن بالرباط، وكتب على قبره: هنا يرقد من أحيا السنة في زمن كانت تُهاجر فيه.
وقد خلد المغرب ذكراه بتسمية جامعة باسمه، واحتفت به الأوساط العلمية لعقود طويلة بعد وفاته، وكان وما زال رمزًا للعلم والإصلاح والتجديد. لم يكن فقط عالمًا، بل كان روحًا ناطقة بالحق، وجسرًا بين الأصول والواقع، ووجهًا من وجوه المغرب المشرقة. رحم الله الشيخ أبا شعيب، فقد كان منارة للعلم في زمن الظلمة، وصوتًا للحق حين كانت الأصوات تُخنق.
كان ذكاؤه لافتًا منذ الصغر، يتنقل بين العلماء ليسمع ويتعلم، وكان لديه شغف غريب بالحديث النبوي، فقد وُصف بأنه كان يكرر حديثًا واحدًا عشرات المرات، ويتدبر سنده ومتنَه حتى يُتقنه تمامًا. ولما بلغ السادسة عشرة، صار يُدرِّس في حلقات صغيرة بعض طلبة العلم الأصغر سنًّا منه، وكان إذا تكلم لا يقاطعه أحد من فرط هيبته وعمق منطقه. توفي والده وهو لا يزال شابًا، فاحتضنه عمه وحرص على أن يُتم له مشواره العلمي، خاصة أن أبو شعيب كان قد أبدى رغبة جامحة في طلب العلم خارج بلده.
وفي أواخر تسعينيات القرن التاسع عشر، قرر أن يشد الرحال إلى المشرق العربي، فقصد مصر، وهناك التحق بالأزهر الشريف، وكان الأزهر آنذاك قبلة العلماء والأدباء والمجددين. برز نبوغه في وقت قصير، حتى صار من بين أشهر طلبة العلم الوافدين، وتعرف على الشيخ محمد عبده، وتأثر بروحه الإصلاحية، كما تتلمذ على يد الشيخ سليم البشري، الذي أجازه في الحديث، وكان يقول عنه: أبو شعيب لا يسأل السؤال المعتاد، بل يأتيك بسؤال من زاوية لا تخطر لك على بال. وقد شهد له أقرانه في مصر بأنه كان يتمتع بذاكرة حديدية، يُقلّب الكتب فيسرد ما فيها من أحاديث وسياقات دون أن يخطئ.
لم يطل به المقام في مصر، حتى استدعاه أمير مكة المكرمة حينها، فعُيِّن خطيبًا وإمامًا بالحرم، ثم قاضيًا، ثم تولى تدريس الحديث والتفسير في حلقات المسجد الحرام. وقد عُرف بين أهل الحجاز بلقب المغربي الفقيه، وكان أهل مكة يقولون: هذا الرجل إذا تكلم لا تُشتمُّ رائحة التعصب في حديثه، بل لا يُسمع منه إلا الحجة والدليل والخلق الكريم. وعاش في مكة سنوات من العطاء العلمي الكبير، إذ كان يجمع بين الدروس، والفتوى، والإمامة، وكان الناس يفدون إليه من الهند واليمن والشام، بل ومن المغرب نفسه.
لكن قلبه ظل متعلقًا ببلده الأم، فاستأذن من أمير مكة للعودة، وعاد إلى المغرب في وقت حساس سياسيًا ودينيًا، حيث بدأ الاستعمار الفرنسي يزحف على البلاد. ما إن وطئت قدماه تراب الوطن حتى احتفى به السلطان عبد الحفيظ، فعينه في مناصب علمية وقضائية عالية، وأناط به مسؤولية إصلاح التعليم، وكان أول من أُطلق عليه لقب شيخ الإسلام في المغرب الحديث. بدأ فورًا في بث علوم الحديث بين الناس، وأحيا ما كاد أن يندثر من تدريس تفسير القرآن، فكان أول من تجرأ على تفسيره علنًا بعد أن كانت هناك خرافة تقول إن من فسر القرآن يموت السلطان، فأعلن من فوق منبر القرويين: بسم الله نفسر القرآن ولا يموت السلطان.
وانطلق في إصلاح شامل لمنظومة القضاء والتعليم، ففرض امتحانات على القضاة، واشترط العلم على كل من يتقلد منصبًا شرعيًا، وبدأ في تنظيم دروس علمية في المساجد الكبرى كالجامع الأعظم بفاس، وكان لا يقبل التسيب في حلقات الدرس، فكان يبدأ على الساعة ويختم على الساعة، ولا يرضى بحديث خارج الموضوع، مما جعله موضع إعجاب وتقدير بين تلامذته. وقد تأثر به كثيرون، وصار له تلاميذ يواصلون النهج العلمي ذاته، أبرزهم عبد الله كنون، وعبد الله الجراري، ومحمد بن العربي العلوي، وغيرهم كثير ممن صاروا رموزًا في المغرب لاحقًا.
كان الشيخ أبو شعيب يجمع بين السلفية المنهجية، والروح المغربية المالكية، لم يكن متعصبًا، بل كان يقول دائمًا إن الحق أحق أن يُتبع، وإن تقليد العلماء لا يُغني عن النظر في الدليل. وكان يحذر من الجمود الفكري، ويحض طلابه على النقد والتمحيص، حتى إنه كان يقول لهم: إذا سمعت مني ما خالف حديث رسول الله فاضربوا بقولي عرض الحائط. وقد واجه مقاومة من بعض مشايخ الطرق الصوفية الذين اعتبروا دعوته عودة إلى التشدد، لكنه ظل على خطه في الإصلاح، لا يتوقف ولا يلتفت.
عُرف عنه الزهد والتقشف، فكان يعيش عيشة بسيطة جدًا، رغم ما عُرض عليه من أموال ومناصب. وكان لا يأكل إلا من كسب يده، ويرفض الهدايا من أصحاب النفوذ. وفي أحد المواقف، أرسل إليه أحد القواد الاستعماريين هدية، فردها إليه مع رسالة تقول: إن العالم لا يُشترى، وإن كرامة الدين لا تُساوَم. وكان الناس يهابونه ويحبونه في الوقت ذاته، إذ لم يُعرف عنه أنه سب أحدًا، أو طعن في عرض أحد، بل كان يرد على خصومه بالحجة والرفق.
ومن أبرز مواقفه التاريخية، رفضه العلني للظهير البربري، الذي كان يهدف لتقسيم المغرب بين عرب وأمازيغ وفصلهم عن الشريعة الإسلامية. وقد قال حينها: لسنا عربًا ولا أمازيغًا، نحن أمة محمد، وشريعتنا من عند الله، لا من فرنسا. وشارك في إصدار بيان العلماء الذي كان شرارة انطلاق الحركة الوطنية لاحقًا. ورغم أنه لم يكن يحمل السلاح، فقد كان خصمًا عنيدًا للمشروع الاستعماري، حيث كان يفضح خطط الفرنسيين في دروسه، ويربي الشباب على الاستمساك بالهوية واللغة والدين.
وقد أحبه السلطان محمد الخامس كثيرًا، وكان يجلس بين يديه ويقول له: نحن نتعلم منك كيف نحكم بين الناس، فالعلم وحده هو ما يبني الأمم. وكان يردد أن الملوك بلا علماء كالسفن بلا ربان، وأن الأمة التي لا تُعلي شأن العلماء، تموت ببطء.
لم يترك مؤلفات كثيرة، لكنه ترك طلابًا يُعدّون بالآلاف، وترك أثرًا لا يُنسى في الذاكرة المغربية. ويُروى أنه في أيامه الأخيرة، حين اشتد به المرض، قال لتلاميذه: لا تحزنوا، فإن العالم يموت جسده، لكن علمه لا يموت، وإذا سارت دعوة الحق، فلا يهم من يحملها. وتوفي رحمه الله سنة 1937، وخرجت جنازته مهيبة حضرها السلطان والعلماء والطلبة والناس من كل جهة، ودفن بالرباط، وكتب على قبره: هنا يرقد من أحيا السنة في زمن كانت تُهاجر فيه.
وقد خلد المغرب ذكراه بتسمية جامعة باسمه، واحتفت به الأوساط العلمية لعقود طويلة بعد وفاته، وكان وما زال رمزًا للعلم والإصلاح والتجديد. لم يكن فقط عالمًا، بل كان روحًا ناطقة بالحق، وجسرًا بين الأصول والواقع، ووجهًا من وجوه المغرب المشرقة. رحم الله الشيخ أبا شعيب، فقد كان منارة للعلم في زمن الظلمة، وصوتًا للحق حين كانت الأصوات تُخنق.