الشعوذة في دهاليز السياسة المغربية: حين يلجأ النخبة إلى عالم الخرافة

 من الشوافة إلى البرلمان: اختراق الشعوذة لصفوف السياسيين والمثقفين بالمغرب

الشعوذة في المغرب: عندما يُقبل السياسي والمثقف على عتبة الساحر
مقدمة: من الظل إلى العلن
في مغرب اليوم، حيث تُرفع شعارات الحداثة، ودولة القانون، والديمقراطية، ما زالت بعض الظواهر القديمة تفرض حضورها بقوة في الواقع، بل وتتسلل إلى مناطق لم تكن لتُخطر على بال.
من بين هذه الظواهر، تبرز الشعوذة والسحر، ليس فقط في الأحياء الشعبية أو القرى النائية، بل في المكاتب الوزارية، والصالونات السياسية، والمجالس الأكاديمية.
نعم، بعض السياسيين والمثقفين المغاربة لا يزالون، في الخفاء، يستعينون بـ"الشوافات" و"الفقهاء" و"السحرة" لتحقيق مكاسب شخصية أو لحماية أنفسهم من الخصوم، في سلوك يثير القلق، ويكشف عن هشاشة فكرية وأخلاقية تتعارض مع ما يدّعونه من علم وعقلانية.
جذور الشعوذة في الثقافة المغربية
للشعوذة في المغرب تاريخ طويل. فقد اختلطت عبر القرون بالمعتقدات الشعبية، والدين، والتقاليد، فصارت جزءًا من نسيج الحياة اليومية لكثير من الناس.
رغم جهود الدولة والمؤسسات الدينية والعلمية في محاربتها، فإن السحر لا يزال يُمارس في الخفاء:
في الأسواق الشعبية، حيث تُباع الأحجبة و"الحرز".
في الزوايا، حيث يُقال إن هناك "أولياء" يمتلكون قدرات خارقة.
في البيوت، حيث يُستدعى "الفقيه" لطرد الجن أو علاج المسحور.
لكن المفارقة الكبرى تكمن في أن هذه الممارسات لم تعد حكرًا على العامة أو الأميين، بل أضحت ملاذًا للنخبة حين تعجز الوسائل "العقلانية" عن حلّ مشاكلها.
لماذا يلجأ السياسي أو المثقف إلى الشعوذة؟
قد يتبادر إلى الذهن أن السياسي أو الأكاديمي شخصٌ "واعي" و"عقلاني" و"مثقف"، فكيف يمكن له أن يصدق في "التوكال" أو "السحر الأسود" أو "جلب الحظ"؟
الجواب قد يكون مزيجًا من:
الطمع في السلطة: بعض السياسيين، خصوصًا أثناء الحملات الانتخابية، يعتقدون أن السحر وسيلة لتقوية حظوظهم أو تشويش تركيز خصومهم.
الخوف من الحسد والعين: هناك اعتقاد راسخ لدى بعض النخب أن النجاح يجلب "العين"، فيستعينون بـ"الشوافات" للحماية.
ضعف اليقين الديني أو الأخلاقي: رغم مظهرهم "الرسمي" أو "الحداثي"، إلا أن دواخلهم مليئة بالخوف، مما يدفعهم للبحث عن حلول غير عقلانية.
ضغط الواقع السياسي: حين تستعصي التحالفات والمفاوضات، وتُسدّ الأبواب، قد يبحث السياسي عن "مخرج غير مرئي".
شهادات وتحقيقات: حين تخرج الحقيقة من الظل
في السنوات الأخيرة، بدأت الصحافة المغربية تتناول هذا الملف الحساس. من أبرز الأمثلة:
تحقيق صحفي نُشر في إحدى المجلات المغربية الواسعة الانتشار، كشف أن برلمانيًا معروفًا في جهة سوس كان يزور "شوافة" سرًا في نواحي تارودانت قبل كل حملة انتخابية.
في تقرير آخر، أشارت إحدى الصحفيات إلى أن رئيس جماعة حضرية كبرى استقدم "فقيهًا من السودان" لعمل طقوس ضد أحد منافسيه السياسيين.
بعض المحامين المغاربة يروون، في جلسات خاصة، قصصًا عن موكلين متورطين في قضايا شعوذة ومخدرات، من بينهم أشخاص كانوا يشغلون مناصب مرموقة.
بل الأكثر خطورة، أن بعض السياسيين لا يزورون فقط "الشوافات"، بل يُنشئون شبكة خاصة من المساعدين المتخصصين في الأعمال الخفية، تضمّ وسطاء، نساء يتقنّ طقوس السحر، و"فقهاء" متمرسين، وغالبًا ما تكون هذه الشبكات محمية بنفوذ مالي أو قبلي.
المثقفون ليسوا بعيدين عن الدائرة
قد يظن البعض أن المثقف المغربي – الجامعي أو الكاتب أو الإعلامي – بعيد عن مثل هذه السلوكيات.
لكن الواقع يكشف عكس ذلك. فهناك أسماء ثقافية كبيرة – دون ذكرها بالطبع – معروفة في الأوساط الأكاديمية كانت تلجأ للشعوذة من أجل:
ترسيخ مكانتها في الجامعة أو الإطاحة بزملاء منافسين.
الحفاظ على القبول في الدوائر الثقافية أو الإعلامية.
كسب "الهالة" والتأثير على الآخرين نفسيًا.
وقد سُجلت حالات غريبة، مثل أساتذة جامعيين عُثر في مكاتبهم على "حرز" مخبأ خلف الكتب، أو رسائل مشبوهة تتضمن "أسماء أمهات" مكتوبة بخط غريب.
الإطار القانوني: نصوص صارمة وتطبيق متراخٍ
ينص الفصل 609 من القانون الجنائي المغربي على معاقبة كل من يمارس أعمالًا تهدف إلى التأثير على إرادة الغير عبر السحر أو الشعوذة.
لكن في الواقع، نادرًا ما تُطبّق هذه القوانين على "الكبار". فالذين يُعتقلون عادة هم:
نساء فقيرات يمارسن "الكي" أو "العين".
رجال دين هامشيون يعملون في القرى.
وسطاء شعوذة يتورطون في قضايا نصب واحتيال.
أما "الشبكة المحمية" التي تضم سياسيين أو شخصيات نافذة، فإنها غالبًا ما تبقى خارج دائرة المساءلة.
الآثار على المجتمع والديمقراطية
حين يلجأ السياسي أو المثقف إلى السحر بدل الحوار أو التخطيط، فإن الرسالة التي تُرسل إلى المواطن البسيط هي:
"العقل لا يكفي، بل يجب أن تطرق باب الجن لتنجح."
وهذا يُنتج آثارًا كارثية، منها:
نشر الجهل والخرافة بدل الوعي والمعرفة.
ضرب ثقة المواطن في المؤسسات، إذ يعتقد أن النجاح السياسي لا يقوم على الكفاءة بل على "الاعمال الخفية".
خلق سوق سوداء للشعوذة ترتبط بالنفوذ السياسي والاقتصادي.
إضعاف سلطة الدولة أمام سلطات رمزية وسحرية غير مرئية.
الحلول الممكنة: بين التوعية والتجريم الحقيقي
مواجهة هذه الظاهرة لا يمكن أن تعتمد فقط على القوانين، بل يجب أن تكون شاملة ومتعددة المحاور:
التربية والتعليم: إدماج دروس في المناهج تحارب الخرافة وتعزز التفكير النقدي.
الإعلام: فضح ممارسات الشعوذة دون خجل، مع برامج واقعية تسخر من السحر كمهنة للنصب.
المجتمع المدني: تنظيم حملات للتوعية في القرى والمدن، وفتح حوار مع الشباب.
المؤسسات الدينية: توجيه خطب الجمعة للحديث عن خطر الشعوذة باسم الدين.
القضاء: تطبيق القانون بحزم على كل من يمارس الشعوذة، مهما كانت مكانته.
خاتمة: من "الفقيه" إلى "الخبير"... ما بين الوهم والحقيقة
لا يمكن الحديث عن مغرب حداثي، يعوّل على الكفاءات والنزاهة، إذا كان السحر لا يزال يُمارس في دهاليز السياسة والجامعة والإعلام.
إن من المؤسف أن يستبدل بعض النخب "الخبير" بـ"الشوافة"، و"المعرفة" بـ"التمائم"، و"التحليل" بـ"البخور".
الرهان الحقيقي ليس فقط على بناء الطرق والمشاريع، بل على تحرير العقل المغربي من الخوف والخرافة.
حينها فقط، يمكن أن نقول إننا فعلاً نخطو نحو المستقبل.

تعليقات