قبر سيدي المخفي: لغز فاس العتيقة

 سيدي المخفي: رمز الغموض في قلب فاس 

مقدمة
 قبر سيدي المخفي في فاس هو أحد المعالم الغامضة التي تثير الجدل والفضول بين سكان المدينة العتيقة وزوارها. يقع هذا القبر الوحيد في موقع استراتيجي بالقرب من باب بوجلود، على هامش طريق رئيسية تؤدي إلى ساحة بوجلود الشهيرة، في قلب فاس البالي، العاصمة العلمية والروحية للمغرب. يتميز هذا القبر بكونه معزولًا وسط أرض أصبحت الآن مرآبًا للسيارات، مما يجعله ظاهرة فريدة تجمع بين التاريخ، الأسطورة، والتناقض مع التطور العمراني. فيما يلي تفاصيل شاملة عن هذا القبر :
موقع القبر ووصفه
الموقع: 
يوجد قبر سيدي المخفي على طريق باب المحروق القريب من باب بوجلود، في منطقة كانت في السابق مقبرة كبيرة تضم مئات القبور. اليوم، القبر يقف منعزلاً وسط أرض ملساء تحولت إلى موقف سيارات حديث.
الوصف:
 القبر مزود بلوحة فخارية كتب عليها: “هذا قبر المرحوم الولي الصالح ذو الهيبة المشهور سيدي المخفي”. لا توجد معلومات دقيقة عن هوية صاحب القبر أو تاريخ وفاته، مما يعزز من غموضه.
الروايات التاريخية والشعبية
تتعدد الروايات حول قبر سيدي المخفي، وتنقسم بين التاريخ الشفوي والأساطير الشعبية، مع غياب وثائق رسمية تؤكد أي منها:قصة المقبرة ومحاولات الهدم:في ستينيات القرن الماضي، صدر قرار من الملك الراحل الحسن الثاني بإخلاء مقبرة باب المحروق ونقل رفات الموتى إلى مواقع أخرى لأغراض عمرانية. تم نقل جميع القبور بنجاح، باستثناء قبر سيدي المخفي.
وفقًا للروايات الشعبية، كلما اقتربت آلات الحفر (الطراكس) من القبر، كانت تتعطل دون سبب ميكانيكي واضح، مما أثار دهشة العمال والمشرفين. حاول العمال مرات عديدة دون جدوى، حتى وصل الخبر حتى الملك الحسن الثاني، الذي زار الموقع بنفسه للتحقق من الأمر.
بعد فشل المحاولات، أمر الملك بترميم القبر والحفاظ عليه، ووضعت عليه اللوحة الفخارية التي تحمل اسم “سيدي المخفي”.
هوية صاحب القبر:
الولي الصالح: يعتقد البعض أن القبر يعود لولي صالح يتمتع بكرامات، مما يفسر عدم تمكن الآلات من إزالته. هذه الرواية شائعة بين السكان الذين يقدسون المكان، حيث يزوره البعض ويضيئون الشموع كجزء من الطقوس التقليدية.
شخص عادي: 
آخرون، مثل عبد الله المطوع، أحد سكان حي مولاي عبد الله القريب، يرون أن القبر يعود لشخص عادي دُفن في المقبرة القديمة، وأن عظام موتى آخرين قد تكون لا تزال تحت الأرض في تلك المنطقة.
امرأة وليست رجلًا:
 رواية فريدة نقلها رجل مسن لموقع fesnews تشير إلى أن “المخفي” قد تكون امرأة، مما يضيف طبقة أخرى من الغموض، لكنها تبقى رواية منفردة دون تأكيد واسع.
الأساطير والخرافات:
يعتقد بعض السكان أن القبر قد يكون مدفنًا لكنز أو محميًا من قبل “شياطين الجن”، مما يفسر توقف الآلات. هذه الروايات تعكس المعتقدات الصوفية المتجذرة في الثقافة المغربية.
هناك من يرى أن القبر يحمل بركة، ويؤمنون بأن زيارته قد تجلب الخير أو تحل مشاكل معينة، على غرار زيارات الأضرحة الأخرى في فاس، مثل ضريح مولاي إدريس.
الوضع الحالي المرآب الحديث:
 في السنوات الأخيرة، تم تحويل الأرض المحيطة بالقبر إلى مرآب سيارات عصري، مع الحفاظ على القبر دون المساس به. هذا التجاور بين الضريح التقليدي والاستخدام العمراني الحديث يعكس تناقضًا بين الموروث الديني والتطور الحضري.
الجدل المستمر:
 يثير القبر جدلاً بين السكان، حيث يراه البعض رمزًا للغموض والتراث، بينما يعتبره آخرون مجرد قبر عادي لا يستحق التقديس. هناك دعوات للتوعية ضد الممارسات التي قد تنطوي على “بدع” أو “خرافات”، مثل إضاءة الشموع، بينما يدعو آخرون لاحترام القبر كجزء من التراث الثقافي.
السياق الثقافي والتاريخي فاس البالي وتراثها:
 فاس البالي، المدرجة ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي، تشتهر بأضرحتها ومعالمها الدينية، مثل ضريح مولاي إدريس الثاني وسيدي أحمد التيجاني. قبر سيدي المخفي، رغم غموضه، يندرج ضمن هذا النسيج الثقافي الغني بالروايات والأساطير.
العلاقة بالماضي:
 يعكس وجود القبر وحيدًا وسط طريق عمومي علاقة المجتمع الفاسي بماضيه، حيث يتم الاحتفاظ بالرموز الدينية والتاريخية حتى في ظل التوسع العمراني. القبر يُعتبر “ندبة في ذاكرة المدينة”، كما وصفه أحد المصادر، يحمل حكاية غير مكتملة تتجدد مع كل جيل.
وجهات النظر المتباينة المؤيدون لتقديس القبر:
 يرون فيه رمزًا دينيًا وثقافيًا يجب الحفاظ عليه، ويؤمنون ببركته بناءً على الروايات التي تتحدث عن كراماته.
المشككون: 
يرون أن القبر عادي وأن القصص المحيطة به مجرد خرافات صوفية، داعين إلى إزالته أو إعادة دفنه في مكان آخر، مع الإشارة إلى أن إزالة القبور للمنفعة العامة جائز شرعًا إذا مرت 40 سنة على الدفن.
الحلول المقترحة:
 اقترح البعض بناء هيكل زجاجي حول القبر لدمجه مع المشهد العمراني الحديث، مع الحفاظ على طابعه التاريخي.
الأهمية الرمزية قبر سيدي المخفي ليس مجرد معلم مادي، بل هو رمز لتداخل الماضي والحاضر في فاس. يجسد قدرة المدينة على استيعاب الغرابة والغموض ضمن حياتها اليومية، ويعكس العلاقة المعقدة بين الذاكرة الجماعية والممارسات الدينية.
يُعتبر القبر نقطة تقاطع بين الحكاية والأسطورة، حيث يستمر في إثارة التساؤلات دون إجابات نهائية، مما يجعله جزءًا من هوية فاس الثقافية.
ملاحظات إضافية
غياب الوثائق التاريخية: لا توجد وثائق رسمية تؤكد هوية صاحب القبر أو سبب بقائه وحيدًا، مما يعتمد بشكل كبير على الروايات الشفوية.
تشابه مع قصص أخرى: هناك قصص مشابهة في مدن مغربية أخرى، مثل ضريح “سيدي الغليمي” في سطات، حيث توقفت آلات الحفر أيضًا عند محاولة إزالته، مما يشير إلى نمط ثقافي مشترك في المغرب يرتبط بالأضرحة والمعتقدات الصوفية.
الجدل الديني: بعض الآراء تنتقد التقديس المبالغ فيه للقبر، معتبرة إياه “شركًا” أو “بدعة”، بينما يرى آخرون أن احترام القبر جزء من التراث الثقافي والديني.
الخاتمة
قبر سيدي المخفي في قلب فاس العتيقة ليس مجرد شاهد مادي، بل رمزٌ حضاري يجسد عمق الصلة بين المدينة وماضيها الروحي والثقافي. سواء أكان مدفنًا لولي صالح مبارك، أم لشخص عادي غمرته الأساطير، أم حتى لامرأة كما ورد في إحدى الروايات النادرة، فإن هذا القبر يظل شاهدًا على هوية فاس التي تمزج بين الحقيقة والخرافة. موقعه المنعزل وسط طريق عمومي، محاطًا بموقف للسيارات، يعكس تناغمًا فريدًا بين التراث والمعاصرة، ويحمل في طياته حكاياتٍ تتجدد مع كل جيل. إن سيدي المخفي، بغموضه وصموده أمام محاولات الإزالة، يبقى رمزًا لروح فاس التي تحتفظ بأسرارها وتقاوم النسيان، داعيةً كل زائر إلى التأمل في أسرارها العميقة. وهكذا، يظل هذا القبر، بكل ما يحمله من غموض وإثارة، جزءًا لا يتجزأ من نسيج فاس التاريخي، يروي قصة المدينة التي لا تكف عن الحياة بين الماضي والحاضر.
تعليقات