قصة رفعت الجمال: جاسوس في قلب إسرائيل
رأفت الهجان، أو رفعت علي سليمان الجمال كما هو اسمه الحقيقي، واحد من أكثر الشخصيات إثارة في تاريخ المخابرات المصرية، وربما العربية ككل. قصته ليست مجرد حكاية جاسوس عادي، بل ملحمة تجمع بين الشجاعة، التضحية، الذكاء، والحياة المزدوجة التي عاشها لسنوات طويلة تحت اسم مستعار في قلب إسرائيل. لكن، كما هو الحال مع أي قصة مخابراتية، فإن الحقيقة حول رأفت الهجان تظل محاطة ببعض الغموض، مع روايات متضاربة بين الجانب المصري والإسرائيلي. دعني أحكي لك القصة بأسلوب بسيط ومباشر، مع التركيز على الحقائق المتوفرة من مصادر موثوقة، بعيداً عن الزخرفة الدرامية التي قد تكون رافقت المسلسل الشهير.ولد رفعت الجمال في الأول من يوليو عام 1927 في مدينة دمياط المصرية، في عائلة متوسطة الحال. والده كان يعمل في تجارة الفحم، بينما كانت والدته ربة منزل تتحدث ثلاث لغات: العربية، الإنجليزية، والفرنسية، وهي مهارة ستنعكس لاحقاً على ابنها. نشأ رفعت في شارع الشرباصي بدمياط، حيث قضى طفولته وصباه قبل أن تنتقل عائلته إلى القاهرة. في القاهرة، التحق بمدرسة التجارة المتوسطة، لكنه لم يكن الطالب المثالي. كان شغوفاً بالمسرح والسينما، ويقال إنه أقنع الممثل الكبير بشاره واكيم بموهبته وشارك بالفعل في ثلاثة أفلام، مما يعكس شخصيته الجريئة والمغامرة منذ صغره. لكن حياته لم تكن مستقرة؛ تنقل بين عدة أعمال، منها العمل كمحاسب في شركة بترول أجنبية بالبحر الأحمر، ثم مساعد ضابط حسابات على سفينة شحن تُدعى "حورس". هناك روايات تشير إلى أنه طُرد من إحدى هذه الوظائف بتهمة الاختلاس، لكن هذه التفاصيل لم تكن مؤكدة بشكل قاطع ويُعتقد أنها أُضيفت لاحقاً لأغراض درامية في المسلسل.في بداية الخمسينيات، بدأت حياة رفعت الجمال تأخذ منعطفاً مثيراً. بعد سفره إلى عدة دول وحصوله على جواز سفر بريطاني مزور، أُلقي القبض عليه في ليبيا عام 1952، حيث شكت السلطات في أنه عميل إسرائيلي بسبب الجواز المزور. أُعيد إلى مصر، وهنا بدأت علاقته بالمخابرات المصرية. المخابرات رأت فيه إمكانيات استثنائية: طلاقته في اللغات (الإنجليزية باللكنة البريطانية، والفرنسية باللكنة الباريسية)، ذكاؤه الحاد، وميله للمغامرة. بدلاً من معاقبته، قررت المخابرات تجنيده. خضع رفعت لتدريب مكثف شمل تعلم الطقوس اليهودية، التاريخ اليهودي، وعادات الجاليات اليهودية (الأشكناز والسفارديم)، بالإضافة إلى مهارات استخباراتية مثل الاتصالات اللاسلكية، التصوير السري، وجمع المعلومات.في يونيو 1956، بدأت مهمته الكبرى. أُرسل إلى إسرائيل تحت اسم "جاك بيتون"، وهي هوية مزيفة صيغت بعناية لتبدو واقعية: يهودي من أصل مغربي أو شمال إفريقي، ولد في المنصورة عام 1919 لأب فرنسي وأم إيطالية. هذا الاسم تم اختياره لأنه كان شائعاً بين اليهود من أصول شمال إفريقية، مما ساعد على إضفاء المصداقية على شخصيته. استقر في تل أبيب، حيث أسس شركة سياحية أصبحت ستاراً لأنشطته الاستخباراتية. نجح رفعت في بناء شبكة علاقات واسعة في المجتمع الإسرائيلي، حيث أصبح شخصية بارزة ومحبوبة، بل ويقال إنه كان على علاقة ودية مع شخصيات إسرائيلية كبيرة مثل موشيه دايان وعيزر وايزمان. هذه العلاقات سمحت له بالحصول على معلومات حساسة.وفقاً للرواية المصرية، قدم رفعت الجمال معلومات حيوية للمخابرات المصرية على مدى 17 عاماً. من أبرز إسهاماته كانت إمداد مصر بتفاصيل عن خط بارليف، التحصينات الإسرائيلية على الضفة الشرقية لقناة السويس، مما ساعد في التخطيط لحرب أكتوبر 1973. كما أبلغ عن نوايا إسرائيل لإجراء تجارب نووية واختبار أسلحة تكنولوجية. هناك أيضاً روايات تشير إلى دوره في كشف الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، الذي كان يعمل في سوريا. لكن، هناك جدل حول فعالية بعض معلوماته، خاصة أنه أبلغ المخابرات المصرية بموعد هجوم إسرائيل عام 1967، لكن هذه المعلومات لم تُستغل بشكل كافٍ، مما أدى إلى نكسة يونيو. البعض يرى أن ذلك يعكس قصوراً في المخابرات المصرية آنذاك، بينما يرى آخرون أنه يعكس تعقيدات العمل الاستخباراتي.على الجانب الإسرائيلي، هناك رواية مختلفة تماماً. بعض المصادر الإسرائيلية، مثل كتاب "الجواسيس" لإيتان هابر ويوسي ميلمان، تدعي أن الموساد كشف هوية رفعت الجمال بعد وقت قصير من وصوله إلى إسرائيل، وأنه جُند كعميل مزدوج. حسب هذه الرواية، قدم رفعت معلومات مضللة للمخابرات المصرية، ساهمت في هزيمة 1967، وحتى في القبض على شبكات تجسس مصرية في إسرائيل. لكن هذه الرواية تُناقض بشدة الرواية المصرية، التي تؤكد نجاح رفعت في خداع إسرائيل لسنوات طويلة دون أن يُكتشف. المخابرات المصرية، وكذلك زوجته فالتراود بيتون، نفت هذه الادعاءات، مؤكدة أن رفعت ظل وفياً لمهمته حتى النهاية. اللواء محمد رشاد، وكيل المخابرات المصرية السابق، أكد أن معلومات رفعت كانت دقيقة ومطابقة للواقع، وأن نجاح مصر في اختراق المؤسسة العسكرية الإسرائيلية في حرب أكتوبر يثبت ذلك.في عام 1963، أثناء زيارته لألمانيا، تزوج رفعت من الألمانية فالتراود بيتون، وأنجب منها ابنه الوحيد دانيال. عاش معها حياة مزدوجة، حيث أخفى عنها هويته الحقيقية، وقدم نفسه كرجل أعمال يهودي فرنسي. استمرت علاقتهما حتى وفاته، لكنها لم تعرف الحقيقة إلا بعد وفاته عام 1982. بعد حرب أكتوبر 1973، غادر رفعت إسرائيل واستقر في ألمانيا، حيث عاش في مدينة دارمشتات حتى إصابته بسرطان الرئة. توفي في 30 يناير 1982، تاركاً مذكراته لدى محاميه، مع وصية بتسليمها إلى زوجته بعد ثلاث سنوات من وفاته. في هذه المذكرات، كشف عن هويته الحقيقية وعن مهمته، وهي الوثائق التي نُشرت لاحقاً في كتاب "18 عاماً خداعاً لإسرائيل" بالتعاون مع زوجته.قصة رفعت الجمال لم تنته بوفاته. في منتصف الثمانينيات، قررت المخابرات المصرية رفع السرية عن ملفه، ونُشرت قصته أولاً كرواية مسلسلة في مجلة "المصور" عام 1986، ثم تحولت إلى مسلسل تلفزيوني شهير عام 1988، بطولة محمود عبد العزيز وإخراج يحيى العلمي. المسلسل، الذي استمر لثلاثة أجزاء، حقق نجاحاً هائلاً، لدرجة أن الشوارع كانت تُصبح خالية أثناء عرضه. لكن، كما أشار أفراد عائلته وبعض المصادر، فإن المسلسل تضمن بعض التفاصيل غير الدقيقة، مثل تصوير علاقة رفعت السيئة بأشقائه أو اتهامه بالسرقة، وهي أمور قيل إنها أُضيفت للحبكة الدرامية. عائلته أكدت أن لديه شقيقين فقط، وليس ثلاثة كما في المسلسل، وأن علاقته بهم كانت جيدة.من الناحية الثقافية، أصبح رأفت الهجان رمزاً وطنياً في مصر والعالم العربي. قصته ألهمت أعمالاً فنية أخرى، وأُنتج فيلم تسجيلي في التسعينيات بعنوان "الصندوق الأسود لرأفت الهجان"، تضمن صوراً حقيقية من أرشيف المخابرات المصرية. كما تستمر الصفحات والمجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي في الاحتفاء به، حيث يتبادل المعجبون قصصاً وتحليلات عن إنجازاته. لكن الجدل حول حقيقته لم ينته. الرواية الإسرائيلية، التي تدعي أنه كان عميلاً مزدوجاً، تظل مثار تساؤل، خاصة أن رئيس الموساد السابق إيسر هاريل أقر بوجود اختراق قوي في الأمن الإسرائيلي، لكنه نفى الشك في جاك بيتون تحديداً. في المقابل، تؤكد المصادر المصرية، بما في ذلك شهادات مسؤولين مثل اللواء حاتم باشات، أن رفعت ظل مخلصاً لمهمته حتى النهاية، وأن إسهاماته كانت حاسمة في انتصار أكتوبر.في النهاية، قصة رأفت الهجان هي قصة إنسان عاش حياة مليئة بالتناقضات والتضحيات. عاش بعيداً عن وطنه، تحت هوية مزيفة، وحمل أعباء نفسية هائلة للحفاظ على سريته. سواء كنت تصدق الرواية المصرية أو تشكك فيها بسبب الروايات الإسرائيلية، فإن ما لا يمكن إنكاره هو تأثيره الكبير على الوعي العربي، وكيف تحول إلى رمز للذكاء والوطنية.