قصة أمينة: أم تونسية تبحث عن ابنها المفقود بعد الثورة

 أمينة وصوت الأمومة الذي لا ينسى

أمينة... بين جدران الثورة
في أحد الأحياء الشعبية بتونس العاصمة، وتحديدًا في حي "دوار هيشر"، كانت تعيش أمينة، امرأة أربعينية، وجهها شاحب أغلب الوقت، لكن في عينيها ضوءٌ غريب، مزيج من حزنٍ قديم وصلابةٍ لا تُشترى. لم تكن أمينة مشهورة، ولا تبحث عن الأضواء، بل كانت أماً لخمسة أطفال، وزوجة لرجل عاطل عن العمل أغلب أيام السنة.
كانت الحياة تقسو على الجميع آنذاك، لكن على أمينة أكثر قليلاً. كانت تعمل في تنظيف البيوت، من الصباح حتى المغيب، لتعود إلى بيتها الصغير، المتكوّن من غرفتين ورطوبة دائمة. في قلبها، نار لا تخبو، لكن شفتيها لا تنبس إلا بالكلمة الطيبة.
في ديسمبر 2010، اشتعلت شرارة الثورة من مدينة سيدي بوزيد، وانتقل لهيبها إلى العاصمة. بدأت الأخبار تتسرب إلى المقاهي، الأسواق، وحتى بين جدران البيوت. ورغم ضيق ذات اليد، كانت أمينة تُصغي باهتمام إلى المذياع العتيق في زواية المطبخ، كل مساء، بعد أن ينام أولادها.
في أحد الأيام، عاد ابنها الأكبر، "أنور"، وعيناه تلمعان:
– "يمّا، نحب نشارك في المظاهرات، ماعادش نتحمّل الذل."
نظرت إليه طويلاً، لم تغضب، لم تصرخ، فقط قالت:
– "ربي يحفظك... أما إيّاك والعنف."
شارك أنور في أول مظاهرة بعد يومين. لم تخبر أمينة أحدًا، لكنها كانت تمضي الساعات تدعو له، وتنتظر عودته كمن ينتظر على باب الغيب.
في 14 يناير 2011، سقط النظام، واحتفل الشارع. خرج الناس يرقصون، ويهتفون باسم "الحرية". لكن بالنسبة لأمينة، انتهى اليوم بالدموع. ابنها أنور لم يعد.
بحثوا عنه في المستشفيات، مراكز الشرطة، بين الجرحى والمعتقلين. وبعد ثلاثة أيام، وجدت صورته في إحدى الصفحات الفيسبوكية: "مفقود منذ يوم الثورة". مرّت أسابيع، ثم أشهر، ولم يظهر.
تحوّلت أمينة من امرأة تصارع الفقر، إلى أمّ مكسورة تصارع النسيان. كانت كل صباح تتجه إلى "ساحة القصبة"، حيث كانت تنظم الأمهات وقفات احتجاجية للبحث عن أبنائهن المفقودين. البعض سقط شهيدًا، البعض اعتُقل، والبعض ببساطة اختفى.
قال لها أحد المحامين:
– "ما عندك حتى ورقة تثبت أنه مات، وما عندك حتى ورقة تثبت أنه حي."
فقالت، بصوتٍ ثابت:
– "لكن قلبي يعرف إنه حي."
أصبحت أمينة رمزًا لصبر الأمهات. تحدثت للإعلام، حضرت ندوات، وشاركت في وثائقيات، وهي تحمل صورة ابنها المكبرة. لكن وراء الكواليس، كانت تنهار كل ليلة، بصمت.
في عام 2014، وبعد ضغط كبير من منظمات المجتمع المدني، صدر قرار بفتح ملف "المفقودين". وذات يوم، تلقت أمينة اتصالاً من مكتب حكومي، يطلب منها الحضور. دخلت وهي تجرّ قدميها، ونبضها في أذنيها. كان هناك موظفٌ شاب، ينظر إليها بحرج.
قال لها:
– "سيدتي، وصلتنا معلومات... تؤكد أن ابنك أنور تم اعتقاله يوم 14 يناير، و..."
قاطعته:
– "وعايش؟"
تردد قليلًا، ثم هزّ رأسه:
– "للأسف، توفي بعد اعتقاله بثلاثة أيام، نتيجة التعذيب."
مرت ثوانٍ كأنها دهور. لم تصرخ أمينة، لم تجهش بالبكاء. فقط وضعت صورة ابنها على الطاولة، وقالت بهدوء:
– "كنت نحب ندفنه بيدي، موش نسمع عليه فالتقارير."
دفنت أمينة حزنها في صدرها، وبدأت مرحلة أخرى من النضال. لم تعد تطالب بمعرفة مصير ابنها، بل أصبحت تطالب بمحاكمة من تسببوا في وفاته، وبحقوق أمهات الشهداء. كانت تقول دائمًا:
– "ما نحبّش نكون ضحية، نحب نكون صوت."
بحلول سنة 2018، ظهرت نتائج بعض التحقيقات، وتم توثيق أسماء الضباط المسؤولين. لكن العدالة بطيئة، وملف أنور بقي معلقًا، مثل آلاف الملفات.
ورغم كل ذلك، لم تتراجع أمينة. أسست جمعية صغيرة، أسمتها "صوت الأم"، تهتم بقضايا المفقودين وضحايا القمع. كانت تجتمع كل أسبوع مع نساء أخريات، يشربن الشاي، ويتحدثن عن أبنائهن، ثم يكتبن رسائل، ويوجّهنها إلى مؤسسات الدولة.
وفي عام 2020، كرّمتها إحدى الجمعيات الأوروبية على جهودها في الدفاع عن حقوق الإنسان. سافرت لأول مرة في حياتها، إلى جنيف، لتتحدث أمام جمهور من مختلف الدول. لم تكن تعرف الفرنسية جيدًا، لكنها قالت جملتها الأخيرة بكل وضوح:
– "أنا امرأة بسيطة، لكن وجع الأم ما يحتاج لغة."
عادت إلى تونس، أكثر هدوءًا، لكن لا تزال تقف في كل وقفة احتجاجية، تحمل صورة أنور، وتُمسكها كما يُمسك أحدهم مصحفًا.
وفي يوم ما، سألتها إحدى الصحفيات:
– "أمينة، بعد كل هذه السنوات... هل ندمتِ على ترك أنور يخرج في المظاهرة؟"
فأجابت:
– "أنا أم، نخاف على ولدي... لكني مواطنة، نحب بلادي. وكان لازم واحد يضحي، حتى نعيشوا أحرار. أنور مشى، أما خلا فيا ألف صوت."

نهاية
معلومات إضافية:
هذه القصة مستوحاة من عدة شهادات حقيقية لنساء تونسيات فقدن أبناءهن خلال الثورة، من بينها شهادات وردت في أرشيف "هيئة الحقيقة والكرامة" في تونس، وكذلك من مقابلات نُشرت في تقارير حقوقية.

تعليقات