1987 – بداية الرحلة، شفشاون تسلب عقل ضيوفها ما اجملها
في سنة 1987، أخذت شهادة التأهيل الفلاحي، وكان الجو صيفًا وعطلة نهاية السنة. عدت إلى مدينة خريبكة، ثم أصبح لا يدور في رأسي سوى السفر والبحث عن عمل.
قررت بداية المشوار كطائر ترك بيت والديه لأول مرة. طلبت من أبي ثمن السفر، أذكر أنه باع قنطاري شعير وأعطاني 80 درهمًا. وكانت الساعة حينها الخامسة والنصف مساءً، فقررت الرحيل.
ذهبت إلى المحطة الطرقية، اشتريت تذكرة قطار من خريبكة إلى الرباط، فركبت. تذكّرت أمي وإخوتي، ومن جهة أخرى، فكرت في مصيري وما سيحل بي في سفري.
لم تكن لدي أي تجربة سابقة، كنت تارة أصبر نفسي، وأخرى أستسلم لضعفي، فأسرّ في البكاء. ولو لم يكن الناس بالقرب مني، لصرخت ببكائي، لأخفّف مما يحمله صدري.
وصلت إلى الرباط، فجلست في أسفل محطة ما لوهلة. وحين صعدت، أوقفني اثنان من الأمن السري، طلبا مني البطاقة، وكان معي التوصيل فقط.
تركوني بعد عدة أسئلة، ثم وجّهوني إلى مقهى تبيت مفتوحة حتى الصباح في "باب الحد". وصلت إلى المكان، جلست في طاولة لوحدي، وكان كثير من الناس داخل وخارج المقهى.
طلبت فنجان قهوة وجلست، وكان الجو باردًا، وأحيانًا يمر نسيم بارد، فكنت أرتعش، وأنظر إلى شخص ما أثار انتباهي منذ وصولي، لأنه كان جالسًا في كرسي بعيد عني.
لكنه بدأ يقترب مني، كلما غفوت أو صرفت انتباهي، حتى جلس أمامي في نفس الطاولة. سلّم علي وطلب لي شايًا، وبدأ يسألني أسئلة كما لو كان يسأل طفلًا بنية التحايل أو التجسس للوصول إلى ما يريد.
قال لي: "لماذا ستبيت هنا؟ أنا عندي سكن وغطاء وأكل، وكل شيء."
من نظرتي إليه فهمت أنه عسكري يشتغل في منزل أحد الضباط الكبار، من خلال ملابسه التي كان يرتديها. فرفضت الذهاب معه.
لكنه استمرّ في الكلام، يزن على مسامعي. بدأ الناس يغادرون عند الساعة الثانية صباحًا، فحمل حقيبة ظهري وبدأ يسير أمامي، وأنا أطلب منه أن يتركني وشأني ويُرجع لي حقيبتي، لكنه لم يتوقف.
وفي لحظة، رأيت ضوءًا أزرق أثار انتباهي، اقتربت منه وقرأت اللافتة على البوابة: "مخفر الشرطة". وكان ذلك الرجل على وشك العبور، فصرخت: "أنقذوني! أنقذوني!"
فرمى بحقيبتي وهرب. ولحسن حظي، لم يخرج أحد من الشرطة، فعدت راكضًا إلى المقهى وجلست حتى الصباح. ثم ركبت الحافلة إلى مدينة وزان، التي وصلتُها في التاسعة صباحًا، وكان يوم السوق الأسبوعي.
جلست لأستريح بعيدًا عن الجميع، وبدأت أسمع الأغاني الجبلية في مكبرات الصوت عند بائعي الأشرطة أو الأدوية. أحسست بالغربة لأول مرة، فبكيت، لكن لوحدي.
ضاق صدري، فرفعت يدي إلى السماء وبدأت أدعو وأبكي:
"يا رب، إن ضيمي لا يعلمه إلا أنت، وإني في أرض لا صاحب لي فيها سواك، ولا عون لي في تخطي الصعاب غيرك. فارشدني لأرض أستقر بها، واحمني من شر ما خلقت، إنك على كل شيء قدير."
جاءت حافلة، وسمعت أحدهم يصيح: "شفشاون! من منكم ذاهب إلى شفشاون؟"
اقتربت منه وسألته بصوت خافت عن ثمن التذكرة، ثم اشتريت واحدة. وعرفت أن المال قد نفد، فقد بقيت 8 دراهم فقط في جيبي.
وصلت إلى شفشاون، وكنت أجيد التكلم باللغة الفرنسية. قصدت مقهى وجلست وحدي، ثم وصلت سائحة فرنسية جلست بالقرب مني. كان في يدها قلم مداد جميل، كانت تلعب به وتديره فوق الطاولة.
جاء ثلاثة أطفال، أعمارهم حوالي خمس أو ست سنوات، يطلبون منها أن تهديهم القلم.
فسألتني مبتسمة: "ماذا يريدون؟"
قلت: "يريدون القلم."
قالت: "لا، لن أعطيهم هذا."
فأخبرتهم بما قالته، فذهبوا في سبيلهم.
قمت وتركتها، فالتقيت رجلين في ثياب رثّة ومتسخة. سألتهم إن كانوا يستطيعون مساعدتي، ولو بدلالة على الطريق أو أي وجهة ممكنة.
سألوني: "من أي مدينة أنت؟"
قلت: "خريبكة."
فتأسفوا لحالي وطلبوا مني مرافقتهم. قبل هذا، التحق بهم رجل آخر من سكان المنطقة.
دخلنا المقهى، أخذ أحدهم صحن "بيصارة" تعوم فوقها التوابل وزيت الزيتون، وخبزة. وبعد أن أكلت، أحضر لي كأسًا كبيرًا من الشاي الأخضر مع النعناع.
اشتروا لي علبة سجائر من نوع "كازا"، وأعطاني أحدهم 10 دراهم، اشتريت بها تذكرة سفر إلى مدينة تطوان، لكني نمت معهم تلك الليلة في مسجد كبير معروف في شفشاون، حيث يبيت هناك الكثير من الناس.
بعد صلاة المغرب، بدأ الحارس يوزّع الأفرشة، وهي عبارة عن حصائر. وكانت تلك الليلة من أجمل ما رأيت في رحلتي.
ترى الناس بفوانيس مضيئة بألوان مختلفة، بعضها يشتغل بالغاز، وبعضها بالشموع. وأصواتهم تحدث صدى جميلاً يعكس عادات المنطقة وأجواءها. وكان المكان في الهواء الطلق.
نمنا في هذا المكان بالضبط، وكانت مهنة أصدقائي الجدد بيع دواء الفأر والعقرب و... و...
وفي تلك الليلة شرحوا لي سرّ المهنة، فقد كانوا يخلطونه بالدقيق الرخيص ويحققون ربحًا كبيرًا.
باتوا يخلطون تلك الليلة. وبعد أذان الفجر، جمعنا كل شيء. تركوني أشرب الحريرة والخبز والشاي، ثم ودّعتهم، فقد سافروا قبلي.
جاءت حافلة ذلك الصباح، وكانت متجهة إلى...
(يتبع...)
قررت بداية المشوار كطائر ترك بيت والديه لأول مرة. طلبت من أبي ثمن السفر، أذكر أنه باع قنطاري شعير وأعطاني 80 درهمًا. وكانت الساعة حينها الخامسة والنصف مساءً، فقررت الرحيل.
ذهبت إلى المحطة الطرقية، اشتريت تذكرة قطار من خريبكة إلى الرباط، فركبت. تذكّرت أمي وإخوتي، ومن جهة أخرى، فكرت في مصيري وما سيحل بي في سفري.
لم تكن لدي أي تجربة سابقة، كنت تارة أصبر نفسي، وأخرى أستسلم لضعفي، فأسرّ في البكاء. ولو لم يكن الناس بالقرب مني، لصرخت ببكائي، لأخفّف مما يحمله صدري.
وصلت إلى الرباط، فجلست في أسفل محطة ما لوهلة. وحين صعدت، أوقفني اثنان من الأمن السري، طلبا مني البطاقة، وكان معي التوصيل فقط.
تركوني بعد عدة أسئلة، ثم وجّهوني إلى مقهى تبيت مفتوحة حتى الصباح في "باب الحد". وصلت إلى المكان، جلست في طاولة لوحدي، وكان كثير من الناس داخل وخارج المقهى.
طلبت فنجان قهوة وجلست، وكان الجو باردًا، وأحيانًا يمر نسيم بارد، فكنت أرتعش، وأنظر إلى شخص ما أثار انتباهي منذ وصولي، لأنه كان جالسًا في كرسي بعيد عني.
لكنه بدأ يقترب مني، كلما غفوت أو صرفت انتباهي، حتى جلس أمامي في نفس الطاولة. سلّم علي وطلب لي شايًا، وبدأ يسألني أسئلة كما لو كان يسأل طفلًا بنية التحايل أو التجسس للوصول إلى ما يريد.
قال لي: "لماذا ستبيت هنا؟ أنا عندي سكن وغطاء وأكل، وكل شيء."
من نظرتي إليه فهمت أنه عسكري يشتغل في منزل أحد الضباط الكبار، من خلال ملابسه التي كان يرتديها. فرفضت الذهاب معه.
لكنه استمرّ في الكلام، يزن على مسامعي. بدأ الناس يغادرون عند الساعة الثانية صباحًا، فحمل حقيبة ظهري وبدأ يسير أمامي، وأنا أطلب منه أن يتركني وشأني ويُرجع لي حقيبتي، لكنه لم يتوقف.
وفي لحظة، رأيت ضوءًا أزرق أثار انتباهي، اقتربت منه وقرأت اللافتة على البوابة: "مخفر الشرطة". وكان ذلك الرجل على وشك العبور، فصرخت: "أنقذوني! أنقذوني!"
فرمى بحقيبتي وهرب. ولحسن حظي، لم يخرج أحد من الشرطة، فعدت راكضًا إلى المقهى وجلست حتى الصباح. ثم ركبت الحافلة إلى مدينة وزان، التي وصلتُها في التاسعة صباحًا، وكان يوم السوق الأسبوعي.
جلست لأستريح بعيدًا عن الجميع، وبدأت أسمع الأغاني الجبلية في مكبرات الصوت عند بائعي الأشرطة أو الأدوية. أحسست بالغربة لأول مرة، فبكيت، لكن لوحدي.
ضاق صدري، فرفعت يدي إلى السماء وبدأت أدعو وأبكي:
"يا رب، إن ضيمي لا يعلمه إلا أنت، وإني في أرض لا صاحب لي فيها سواك، ولا عون لي في تخطي الصعاب غيرك. فارشدني لأرض أستقر بها، واحمني من شر ما خلقت، إنك على كل شيء قدير."
جاءت حافلة، وسمعت أحدهم يصيح: "شفشاون! من منكم ذاهب إلى شفشاون؟"
اقتربت منه وسألته بصوت خافت عن ثمن التذكرة، ثم اشتريت واحدة. وعرفت أن المال قد نفد، فقد بقيت 8 دراهم فقط في جيبي.
وصلت إلى شفشاون، وكنت أجيد التكلم باللغة الفرنسية. قصدت مقهى وجلست وحدي، ثم وصلت سائحة فرنسية جلست بالقرب مني. كان في يدها قلم مداد جميل، كانت تلعب به وتديره فوق الطاولة.
جاء ثلاثة أطفال، أعمارهم حوالي خمس أو ست سنوات، يطلبون منها أن تهديهم القلم.
فسألتني مبتسمة: "ماذا يريدون؟"
قلت: "يريدون القلم."
قالت: "لا، لن أعطيهم هذا."
فأخبرتهم بما قالته، فذهبوا في سبيلهم.
قمت وتركتها، فالتقيت رجلين في ثياب رثّة ومتسخة. سألتهم إن كانوا يستطيعون مساعدتي، ولو بدلالة على الطريق أو أي وجهة ممكنة.
سألوني: "من أي مدينة أنت؟"
قلت: "خريبكة."
فتأسفوا لحالي وطلبوا مني مرافقتهم. قبل هذا، التحق بهم رجل آخر من سكان المنطقة.
دخلنا المقهى، أخذ أحدهم صحن "بيصارة" تعوم فوقها التوابل وزيت الزيتون، وخبزة. وبعد أن أكلت، أحضر لي كأسًا كبيرًا من الشاي الأخضر مع النعناع.
اشتروا لي علبة سجائر من نوع "كازا"، وأعطاني أحدهم 10 دراهم، اشتريت بها تذكرة سفر إلى مدينة تطوان، لكني نمت معهم تلك الليلة في مسجد كبير معروف في شفشاون، حيث يبيت هناك الكثير من الناس.
بعد صلاة المغرب، بدأ الحارس يوزّع الأفرشة، وهي عبارة عن حصائر. وكانت تلك الليلة من أجمل ما رأيت في رحلتي.
ترى الناس بفوانيس مضيئة بألوان مختلفة، بعضها يشتغل بالغاز، وبعضها بالشموع. وأصواتهم تحدث صدى جميلاً يعكس عادات المنطقة وأجواءها. وكان المكان في الهواء الطلق.
نمنا في هذا المكان بالضبط، وكانت مهنة أصدقائي الجدد بيع دواء الفأر والعقرب و... و...
وفي تلك الليلة شرحوا لي سرّ المهنة، فقد كانوا يخلطونه بالدقيق الرخيص ويحققون ربحًا كبيرًا.
باتوا يخلطون تلك الليلة. وبعد أذان الفجر، جمعنا كل شيء. تركوني أشرب الحريرة والخبز والشاي، ثم ودّعتهم، فقد سافروا قبلي.
جاءت حافلة ذلك الصباح، وكانت متجهة إلى...
(يتبع...)