القصة الكاملة لغاري ريدجواي - سفاح النهر الأخضر
غاري ليون ريدجواي، الرجل الذي عرفه التاريخ الأمريكي كأكثر القتلة المتسلسلين دموية، لم يكن شيطانًا بوجه واضح، بل كان رجلًا رماديًا جدًا، شخصًا قد تمر به في شارعك دون أن تعيره اهتمامًا. وُلد غاري في 18 فبراير عام 1949 في ولاية يوتا، ونشأ في ضاحية ساكنة من ضواحي سياتل بولاية واشنطن. منزل عادي، أسرة عادية، لكنه عاش داخليًا طفولة بعيدة عن العادية.
كان والده يعمل في شركة نقل، وكان دائمًا يتحدث عن مدى احتقاره لعاملات الجنس، مما زرع في عقل الطفل غاري بذور الكراهية. أما والدته، فكانت سيدة متسلطة، شديدة الرقابة على أبنائها. في إحدى المرات، بلّل غاري نفسه، وكانت والدته تستحمّ معه وهي تنظفه بشكل بدا له جنسيًا ومربكًا. بدأ في تطوير مشاعر مكبوتة نحوها، يكرهها لكنه مشدود إليها. تلك الثنائية بين الإعجاب والكراهية، الطهارة والقذارة، ستلاحقه طوال حياته.
في سن السادسة عشرة، ارتكب أول محاولة قتل. اقترب من طفل صغير في الحي، طعنه في الكبد بسكين، ثم وقف يراقبه وهو ينزف، يقول له: "لطالما أردت أن أقتل أحدًا، أردت فقط أن أعرف كيف سيكون الشعور." الطفل نجا، وغاري أفلت من العقوبة. لكنها كانت المرة الأولى التي يتذوق فيها القوة.
بعد الثانوية، التحق بالبحرية وخدم في فيتنام، وهناك عاش تجارب جنسية مشوهة مع عاهرات في الخارج، مما عمّق كراهيته لهن. بعد عودته، تزوج، لكن حياته الزوجية لم تصمد، وبدأت علاقاته بالنساء تتصف بالشك والغيرة والعنف العاطفي. كان يبحث عن السيطرة.
في أوائل الثمانينات، كانت سياتل في حالة اضطراب. جثث بدأت تظهر في مناطق مختلفة قرب نهر "غرين ريفر". كانت الشرطة عاجزة، فمعظم الضحايا من عاملات الجنس، لا أحد يبحث عنهن بجدية. لكن العدد بدأ يتزايد، والهلع زحف تدريجيًا. في تلك الفترة، كان غاري يعيش حياة مزدوجة: نهارًا يعمل في مصنع دهان الشاحنات، يظهر كرجل هادئ متدين، يذهب للكنيسة، يحضر دروس الإنجيل. لكنه ليلًا، كان يطوف الشوارع بسيارته، يبحث عن فريسة جديدة.
كانت استراتيجيته بسيطة لكنها مميتة: يقترب من المرأة، يُظهر لطفًا، يَعِد بدفع جيد مقابل وقتها، أو يوصلها إلى مكان معين. ثم يقودها إلى منطقة غابية معزولة، أو خلف طريق مهجور. هناك، يتوقف، يطلب منها الخروج، وأحيانًا يجعلها تثق به عبر الحديث عن إيمانه أو ابنه الصغير.
بمجرد أن تطمئن، كان ينقض عليها. يخنقها بيديه، أو باستخدام حبل يحمله معه دائمًا. كان يختار الخنق لأنه أراد "أن يرى الحياة تنطفئ من عينيها"، كما قال في أحد اعترافاته. بعد أن تموت، يترك الجثة في الغابة أو بجانب النهر، وأحيانًا يعود إلى الموقع بعد أيام، ليقوم بأفعال مروعة مع الجثة.
النيكروفيليا كانت جزءًا من جرائمه، لكنها لم تكن الدافع الأساسي. الدافع كان السيطرة التامة، رغبة في القضاء على ما رآه "نساء فاسدات"، تكرارًا مشوهًا لعقدته مع أمه وعاهرات فيتنام.
الشرطة بدأت الربط بين الجثث، وبدأت تعرفه إعلاميًا باسم "سفاح النهر الأخضر". تم تشكيل فريق تحقيق خاص، بمشاركة مكتب التحقيقات الفيدرالي، لكن لم تكن هناك أدلة ملموسة. في 1987، تم استجواب غاري ريدجواي بالفعل، بعد أن أبلغت إحدى النساء عنه. تم أخذ عينة من حمضه النووي، لكن التقنية آنذاك لم تكن قادرة على ربطها بالجثث.
عاش غاري بعدها سنوات من الهدوء الظاهري. تزوج مرة ثالثة، وبدت حياته طبيعية تمامًا. لكن جرائمه لم تتوقف. كانت أكثر خفية، وأكثر دقة. الضحايا استمروا في الاختفاء.
بحلول أواخر التسعينات، تقدمت التكنولوجيا بشكل كبير. في 2001، أعادت الشرطة فتح الأدلة القديمة، واستخدمت تقنية DNA المتقدمة. العينة المأخوذة من غاري عام 1987 تم تحليلها وربطها بأربع جثث. تم القبض عليه فورًا، في نوفمبر 2001.
عند استجوابه، لم ينكر، بل تحدث بهدوء. قال إنه لا يتذكر عددهن بالضبط، لكنه "قتل الكثير". وافق على التعاون مقابل عدم الحكم عليه بالإعدام. وبدأ يكشف عن أماكن دفن الضحايا واحدة تلو الأخرى. الشرطة كانت تذهب معه إلى الغابات، وكان يقف في صمت، يشير بيده ويقول: "هنا".
اعترف بقتل 71 امرأة، معظمهن تتراوح أعمارهن بين 15 و26 عامًا، وكلهن تقريبًا من الشوارع: فقيرات، هاربات، عاهرات، أو فتيات لا أحد يفتقدهن.
في 2003، حُكم عليه بالسجن المؤبد دون إمكانية الإفراج. يعيش حتى اليوم في سجن شديد الحراسة. في زنزانة بلا نافذة، رجل عادي المظهر، يحمل في داخله رعبًا لا يمكن تخيله.
غاري ريدجواي لم يكن مجرد قاتل متسلسل، بل تجسيد لكيف يمكن للشر أن يعيش متخفيًا في أبسط الوجوه. شخص يبتسم لجاره، يربي طفلًا، يصلي في الكنيسة… ثم في الليل، يتحول إلى صيّاد، يطارد الأرواح في الظلام.
قصته تُذكرنا بأن الوحوش لا تحمل دائمًا ملامح مخيفة. أحيانًا ترتدي قناع الطيبة، وتعيش بجانبنا في صمت.
بعد أن تم القبض على غاري ريدجواي في نوفمبر 2001، بدأت واحدة من أطول وأكثر القضايا الجنائية تعقيدًا في تاريخ ولاية واشنطن. عملية جمع الأدلة، وإجراء التحقيقات، وتوثيق الجرائم الكثيرة التي ارتكبها تطلبت جهود عشرات المحققين، ومئات ساعات العمل، وآلاف الوثائق.
في البداية، تم اتهام ريدجواي بأربع جرائم قتل فقط، تلك التي تم ربطها به عن طريق الحمض النووي. لكن سرعان ما بدأت قضايا أخرى بالظهور، إذ بدأ هو نفسه يعترف بقتل المزيد من النساء. كان يجلس بهدوء في غرفة التحقيق، يرسم خرائط للمواقع التي دفن فيها الجثث، ويتحدث عن الضحايا وكأنهم مجرد أرقام.
أمام صفقة الادعاء التي عرضت عليه، وافق على التعاون الكامل مع الشرطة مقابل تجنيبه عقوبة الإعدام. الصفقة كانت محل جدل، لكن السلطات رأت أنها الطريقة الوحيدة للوصول إلى الحقيقة كاملة، والعثور على رفاة الضحايا الذين لا يزال مصيرهم مجهولًا.
جلسات الاستماع في المحكمة كانت صادمة. العائلات جلست على المقاعد تنتظر أن تسمع ما حدث لبناتها، أخواتهن، أمهاتهن. وعندما بدأت أسماء الضحايا تُقرأ في المحكمة، ساد الصمت. تم ذكر أسماء 48 ضحية بالتفصيل، ووقفت الشرطة لتعرض الأدلة: صور العظام، مواقع الجثث، الحبال المستخدمة، والأقوال التي أدلى بها القاتل نفسه.
غاري لم يُظهر أي مشاعر ندم. في لحظة واحدة فقط بدا عليه التأثر، عندما قالت والدة إحدى الضحايا: "رغم كل ما فعلته، أنا أسامحك. لأن قلبي لا يعرف الحقد." وقتها، نظر للأرض ولم يرفع عينيه.
في 5 نوفمبر 2003، تم الحكم عليه بـ 48 حكمًا بالسجن المؤبد دون إمكانية الإفراج المشروط، واحد لكل ضحية. لكن بعد أعوام، واصل الاعتراف، ووصل عدد ضحاياه إلى 71. بعض التقديرات غير الرسمية تشير إلى أنه قد يكون قتل أكثر من 90 امرأة.
ما يجعل قضيته فريدة ليس فقط عدد الضحايا، بل المدة التي تمكن خلالها من الإفلات من العدالة، وكيف استطاع التلاعب بالشرطة لسنوات، مع الحفاظ على صورة الرجل الهادئ المتدين. حتى زملاؤه في العمل لم يصدقوا أنه يمكن أن يكون قاتلًا.
اليوم، غاري ريدجواي يقضي عقوبته في سجن ولاية واشنطن شديد الحراسة، في زنزانة انفرادية. لا زيارات، لا حرية، فقط جدران تُذكره بجرائمه. ومع مرور السنين، لا تزال التحقيقات في قضاياه مفتوحة، فبعض الضحايا لم يتم التعرف عليهن بعد.
في النهاية، تُظهر محاكمته كيف يمكن أن يكون العدل بطيئًا، لكنه حتمي. وكيف أن الوحش قد يعيش بيننا، بملامح عادية، في قلب المجتمع، لسنوات دون أن يُكتشف.