حين يفقد المواطن احترامه للملك والسياسيين: صرخة شعب بلا صوت
في المغرب، لم يعد مستغربًا أن ترى مواطنًا بسيطًا يسب رئيس الحكومة أو وزيرًا أو حتى الملك نفسه على مواقع التواصل الاجتماعي أو في جلسة مقهى، بل أصبح ذلك نوعًا من المتنفس الجماعي أو الرد العفوي على سنوات من الكبت والتجاهل والوعود الكاذبة، وكأن المواطن قرر أن ينزع آخر ما تبقى من الرمزية عن الشخصيات السياسية، والملكية نفسها لم تسلم من هذا التغير في الوعي الشعبي. الناس لم تولد هكذا، لم تُربّ على الشتم أو التقليل من المقامات، لكن تراكم الخيبات وسنوات من انعدام الكرامة جعلتهم يفقدون ذلك الإحساس بالتقديس أو التبجيل الذي كان يرافق ذكر اسم الملك أو الوزير أو البرلماني. تغير الزمن وتغيرت أدوات التعبير، لكن أكثر ما تغير هو الإيمان، الإيمان بأن الدولة تستمع، أو أن السياسي يهتم، أو أن الملك يتدخل في الوقت المناسب. حين يعيش المواطن الفقر والظلم والغلاء والبطالة واحتقار الإدارة، ويتعرض للإهانة في المستشفى والمدرسة والمحكمة، ويرى أن لا شيء يتغير، يبدأ تلقائيًا في بناء جدار نفسي بينه وبين كل رموز الدولة، يبدأ في نزع الهيبة من فوق رؤوسهم لأنه لم يجد فيها أي أثر للرحمة أو العدالة أو حتى الاحترام المقابل. كيف تريد من مواطن يشتغل طوال حياته ولا يجد حتى سريرًا في مستشفى عمومي أن يحترم وزير الصحة الذي يظهر كل أسبوع في القنوات وهو يتحدث عن المنجزات؟ كيف تريد من شاب قضى عشر سنوات يطرق أبواب العمل ويُقابل بالإهمال أو الرشوة أن يحترم مسؤولا يتحدث عن الفرص والتكوين؟ بل كيف تريد من أمّ مات ابنها أمام باب المستشفى أن لا تصرخ في وجه كل النظام؟ كلنا نعرف أن الناس لا تسب من فراغ، ولا تكره الملك أو السياسي لمجرد الكره، ولكن حين تتكرر المآسي، وحين يرى المواطن أن كل من يملك القرار يعيش في عالم آخر، في رفاه، وفي حصانة، وفي غياب تام عن الهموم اليومية، يصبح الغضب حالة دائمة، وتتحول اللغة إلى مرآة لذلك القهر. الدولة المغربية لم تعد تتعامل مع مواطن يهاب أو يقدّس، بل مع مواطن مجروح، ساخر، ناقم، لا ينتظر شيئًا، وهذا أخطر ما يمكن أن تصله الشعوب، أن تكف عن الانتظار أو التوقع، لأن الأمل هو آخر خيط يربط المواطن بوطنه، وإذا انقطع الأمل، يصبح كل شيء مباحًا، حتى السب العلني وحتى التهكم على أعلى الرموز. السياسي المغربي أيضًا ساهم بيده في هذا الانهيار، حينما فرّغ الخطاب من مضمونه، وأصبح يمارس الكذب بمنتهى البرود، يتحدث عن الإنجازات في حين أن الناس تموت على أبواب المستشفيات، يتحدث عن التقدم بينما المواطن يهاجر على قوارب الموت، يتحدث عن الدعم في حين أن أسعار الزيت والحليب والدواء تتضاعف. ثم يأتي برلماني لا يعرفه أحد ليتحدث باسم الشعب، وهو الذي لم يخرج يومًا للشارع، ولم يزر حيًا فقيرًا، ولم يجلس مع شباب عاطل، فكيف يُنتظر من الناس أن تحترمه أو أن تعيره أي اهتمام؟ لقد تحول البرلمان نفسه إلى مسرح، وأصبحت الحكومة نادٍ للنخبة المنعزلة، بينما الشعب يصفق ساخرًا أو يشتم حانقًا، لا فرق. أما الملك، فمعظم المغاربة كانوا، ولا زال كثير منهم، يرونه ضامنًا للاستقرار، أو الحَكَم بين الشعب والسلطة، لكن حينما تتكرر الكوارث ولا يُسمع صوته، وحينما لا تتحرك الدولة إلا بعد أن تُفضح في فيديو، يبدأ الناس في التساؤل: أين الملك؟ لماذا لا يتدخل؟ هل يعلم بما يحدث فعلًا؟ ولماذا لا يتصرف حين نحتاجه؟ هذه الأسئلة تتحول مع الوقت إلى شك، ثم غضب، ثم فقدان كامل للثقة. هناك جيل جديد لا يخاف من انتقاد أي شيء، جيل لا يعرف سنوات الرصاص ولا يخيفه الحبس، لأن السجن في حد ذاته لم يعد يرعب شابًا بلا عمل ولا بيت ولا مستقبل. هذا الجيل لا يرى في الملكية ذلك البعد القدسي كما كانت الأجيال السابقة، بل يراها مؤسسة سياسية مسؤولة، يمكن محاسبتها وانتقادها كما يُنتقد أي مسؤول آخر، وهذه ليست بالضرورة ظاهرة سلبية، بل تعني فقط أن العلاقة تغيرت، لم تعد علاقة ولاء مقدس، بل علاقة مسؤولية، وهذا ما لم تستوعبه الدولة بعد، إذ لا زالت تظن أن الرمزية تحميها، بينما الناس تجاوزوا تلك الرمزية حينما تجاوزهم الواقع. لقد أصبح احترام الدولة مرتبطًا بأدائها، لا بهيبتها، وإذا غاب الأداء، غابت الهيبة. وحتى أولئك الذين كانوا بالأمس يُدافعون عن الملك أو السياسيين، أصبحوا اليوم في موقع المشتكي، لا لأنهم كفروا بكل شيء، ولكن لأنهم تعبوا من الدفاع عن مؤسسات لا تدافع عنهم، تعبوا من تبرير الفشل والخذلان والوعود الكاذبة. الدولة حين لا تحترم مواطنيها لا يمكن أن تطلب منهم الاحترام، لا يمكن أن تطلب من المواطن أن يجل من لا يسمعه، وأن يصمت أمام من يهينه، وأن يقدّس من لا يراه أصلًا. لا أحد يحترم من يحتقره، ولا أحد يصمت إلى الأبد، وحتى من يسب الدولة اليوم، ربما لو وجد عدلًا فيها، لاحترمها وبناها وساهم فيها، ولكن حين تغلق الأبواب، وتُكمم الأفواه، ولا يُحاسب الفاسد، يصبح السب أضعف الإيمان. في هذا البلد، لم يعد الناس يثقون في الانتخابات، ولا في الأحزاب، ولا في الإعلام، ولا حتى في المؤسسات الكبرى، فكيف سيبقون يحترمونها؟ إن الاحترام لا يُفرض، بل يُبنى، وإذا فُقدت الثقة، يصبح من الطبيعي أن تنهار تلك الهالة التي كانت تحيط بكل من له منصب أو صفة أو لقب. اليوم المواطن لم يعد يرى في المسؤول وجهًا للهيبة، بل يرى فيه وجهًا للفشل، وجهًا للأزمة، وجهًا للخذلان. لقد أصبحنا في لحظة خطيرة، حيث الشتيمة أصبحت لغة شعبية، والتهكم صار تعبيرًا سياسيًا، والسخرية أداة مقاومة، وإذا لم تنتبه الدولة لهذا التحول، وإذا لم تتصالح مع مواطنيها بعدالة حقيقية، واحترام متبادل، ومحاسبة صارمة، فسيأتي يوم لا يعود فيه للدولة معنى، لأن ما يبقي الدولة حية هو الاحترام، وإذا مات ذلك، ماتت كل شرعية.