صراع الأحزاب وغياب الثقة الشعبية في ظل غموض المرحلة القادمة
منذ أن دخل المغرب سنة 2025، بدأت ملامح المشهد السياسي تتغير بوتيرة متسارعة، وكأن البلاد تستعد لحدث مفصلي لا يقل أهمية عن لحظة دستور 2011. الأحزاب السياسية، سواء الحاكمة أو المعارضة، دخلت في سباق محموم نحو انتخابات 2026، التي باتت تؤثث كل نقاش حزبي، وكل تصريح رسمي، وكل تحرك ميداني. لم يعد هناك وقت للبرامج الحكومية أو الإصلاحات الاجتماعية، بل تحولت السنة إلى موسم انتخابي طويل، تتداخل فيه الحسابات السياسية مع المصالح الحزبية، وتختلط فيه الشعارات بالتكتيكات، ويغيب فيه المواطن عن مركز الاهتمام، رغم أنه المفترض أن يكون جوهر العملية الديمقراطية. التحالف الحكومي الثلاثي، المكوّن من حزب التجمع الوطني للأحرار، وحزب الأصالة والمعاصرة، وحزب الاستقلال، يعيش حالة من التوتر الداخلي، رغم محاولات الترويج لصورة منسجمة. كل حزب من هذه الأحزاب يطمح إلى تصدر الانتخابات المقبلة، وكل زعيم سياسي يحاول أن يثبت أنه الأجدر بقيادة الحكومة القادمة. عزيز أخنوش، رئيس الحكومة الحالي، لا يخفي طموحه في ولاية ثانية، ويعتمد على شبكة علاقاته الاقتصادية والدولية، وعلى ما يعتبره إنجازات حكومته في مجالات الاستثمار والبنية التحتية. لكن الأصالة والمعاصرة، بقيادة شخصيات مثل فاطمة الزهراء المنصوري ومحمد المهدي بنسعيد، ترى نفسها مؤهلة لقيادة المرحلة المقبلة، وتعتبر أن لديها رؤية واضحة لمستقبل المغرب، وأنها قادرة على تقديم نموذج جديد للحكم. أما حزب الاستقلال، الذي يقوده نزار بركة، فيحاول أن يستعيد أمجاده التاريخية، ويقدم نفسه كصوت الشعب داخل الحكومة، رغم أنه جزء من التحالف الحاكم. هذه الأحزاب الثلاثة، رغم تحالفها، بدأت تكشف عن خلافاتها، سواء في التصريحات الإعلامية أو في السياسات القطاعية، خصوصًا في ملفات حساسة مثل التعمير والتشغيل وصندوق المقاصة. هذه الخلافات تعكس صراعًا خفيًا حول من سيتصدر المشهد بعد انتخابات 2026، وتكشف عن هشاشة التحالف الحكومي الذي يبدو أنه يعيش على التوازنات الظرفية أكثر مما يعيش على رؤية مشتركة. في المقابل، أحزاب المعارضة بدأت تتحرك، لكنها لا تزال تعاني من التشتت والضعف التنظيمي. حزب الحركة الشعبية، الذي حصل على 28 مقعدًا في انتخابات 2021، يحاول أن يتموقع كزعيم للمعارضة، وأطلق مؤخرًا تحالفًا جديدًا تحت اسم "التكتل الشعبي"، يضم الحزب المغربي الحر والحزب الديمقراطي الوطني. هذا التكتل يسعى إلى تقديم بديل شعبي، ويعتبر أن الساحة السياسية تعاني من احتباس غير مسبوق، ومن تراجع في المهام التأطيرية والتمثيلية للمؤسسات التقليدية. لكن هذا التحالف، رغم طموحه، لا يملك قاعدة جماهيرية قوية، ولا يمتلك منظمات موازية قادرة على التأثير، مما يجعله أقرب إلى مبادرة معنوية منه إلى مشروع سياسي فعلي. في الوقت نفسه، تحاول أحزاب اليسار، مثل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب التقدم والاشتراكية، أن توحد صفوفها، وتنسق مواقفها، بهدف جمع شتات القوى اليسارية، وتقديم بديل فكري وأيديولوجي للحكومة الليبرالية الحالية. لكن هذه المحاولات لا تزال محدودة، وتعاني من ضعف في التواصل مع القواعد الشعبية، ومن غياب خطاب قادر على استقطاب الشباب والمهمشين. أما حزب العدالة والتنمية، الذي تعرض لهزيمة قاسية في انتخابات 2021، فيحاول أن يستعيد مكانته، ويعقد مؤتمراته الداخلية، ويعيد ترتيب أوراقه، لكن عودته لا تزال محفوفة بالتحديات، خصوصًا في ظل تغير المزاج الشعبي، وتراجع تأثير الخطاب الديني والشعبوي الذي كان يعتمده في السابق. المشهد السياسي المغربي يعيش حالة من التدافع، حيث بدأت الأحزاب، سواء الحاكمة أو المعارضة، في رفع وتيرة تحركاتها، وتنظيم لقاءات داخلية، واستقطاب وجوه جديدة، وتكثيف حضورها الإعلامي، في محاولة لتسجيل نقاط أمام الناخبين. لكن هذا التدافع لا ينبني على تقييم حقيقي للأداء السياسي، ولا على مراجعة للبرامج، بل على حسابات انتخابية ضيقة، وعلى رغبة في البقاء داخل النسق، وضمان المواقع والمناصب. المواطن المغربي، في ظل هذا الوضع، يشعر بالإحباط، ويعيش أزمة ثقة في الأحزاب والمؤسسات. استطلاعات الرأي تشير إلى أن أكثر من ثلث الناخبين لم يحسموا موقفهم بعد، وأن نسبة مماثلة تنوي مقاطعة الانتخابات، مما يعكس حجم الأزمة التي تعيشها الديمقراطية التمثيلية في البلاد. الأحزاب السياسية، بدل أن تقدم برامج واقعية، وتخاطب المواطن بلغة المصالح العامة، أصبحت تتصارع على النفوذ، وتوظف السلطة المحلية والمشاريع الاجتماعية لأغراض انتخابية، مما يكرّس صورة حزبية مأزومة، تعيش على إيقاع موسم انتخابي دائم. في هذا السياق، تتصاعد الاتهامات المتبادلة، وتتحول الخطابات السياسية إلى أدوات للتراشق، وتُستغل القضايا الاجتماعية، مثل مسيرة الكرامة في آيت بوكماز، لأغراض انتخابية، مما يزيد من حدة الانقسام، ويهدد الاستقرار السياسي والاجتماعي. النواب البرلمانيون بدأوا يتحسسون قرب نهاية ولايتهم، ويكثفون حضورهم عبر الأسئلة الكتابية، في محاولة لتسجيل نقاط أمام ناخبيهم، رغم أن البرلمان نفسه فقد الكثير من مصداقيته، وتحول إلى فضاء للصفقات أكثر منه فضاء للنقاش الجاد. الأحزاب السياسية، بدل أن تكون مؤسسات اقتراح وحل، أصبحت أدوات انتخابية موسمية، لا تظهر إلا عند اقتراب المواعيد الانتخابية، مما يعكس أزمة عميقة في الثقافة السياسية والعمل الحزبي. الباحثون في العلوم السياسية يرون أن ما يجري اليوم يدخل في إطار "التسخينات الانتخابية"، وهو أمر طبيعي، لكن الإشكال يكمن في أن هذا التنافس لا ينبني على برامج وإصلاحات، بل على تموقع إعلامي وسياسي، وعلى استقطاب رجال الأعمال والداعمين، وعلى البحث عن الوجوه المؤثرة في المجتمع المدني. هذه الدينامية، رغم أنها تعكس حيوية سياسية، إلا أنها تكشف أيضًا عن اختلالات داخلية، وعن غياب رؤية استراتيجية، وعن ضعف في الالتزام بالمبادئ والأخلاقيات السياسية. الأحزاب، بدل أن تقوّم العمل الحكومي، وتقدم نقدًا بناء، أصبحت تبحث عن مكامن الخلل لتوظيفها انتخابيًا، مما يزيد من تعميق أزمة الثقة، ويكرّس عزوف الشباب عن السياسة، ويهدد بنزع المصداقية عن العملية الديمقراطية برمتها. المواطن المغربي، الذي يعاني من البطالة وغلاء المعيشة وتدهور الخدمات، لا يرى في هذه التحركات الحزبية ما يعكس اهتمامًا حقيقيًا بقضاياه، بل يرى سباقًا نحو السلطة، وتوظيفًا لمعاناته، واستغلالًا لآلامه. هذا الوضع، إذا استمر، قد يؤدي إلى تصدعات تهدد استقرار الحكومة، وتفاقم أزمة الثقة في السياسة والسياسيين، مما يستدعي تحركًا عاجلًا لإصلاح العمل السياسي، وتأطيره ضمن رؤية تعيد للمشهد السياسي مصداقيته وفعاليته. الانتخابات المقبلة لن تكون مجرد محطة دورية، بل لحظة فارقة قد تعيد تشكيل الخريطة الحزبية، وتفرض نمطًا جديدًا في تدبير الشأن العام. بين تشتت الأصوات، وتنافس الأحزاب، وتردد الناخبين، يبدو أن النتائج ستظل رهينة بالتحولات الميدانية حتى آخر لحظة، مما يجعل من هذه الانتخابات واحدة من أكثر الاستحقاقات غموضًا وتنافسية في تاريخ المغرب الحديث. وفي ظل هذا كله، تبقى المؤسسة الملكية في موقع المراقب، رغم امتلاكها لكل أدوات التدخل. المواطن يوجّه نداءه للملك، لكنه لا يجد ردًا، ولا إشارات، بل فقط خطابات تنقل ما يحدث، دون تحديد للمسؤوليات أو اتخاذ قرارات واضحة. وكأن الملك، الذي بيده سلطة العزل والتعيين، وسلطة التدخل الفوري، وسلطة توجيه البلاد، قد قرر أن يُراقب من بعيد، دون أن يستخدم صلاحياته الدستورية في إنقاذ ما يمكن إنقاذه. هذا الصمت، الذي يراه البعض حيادًا، يراه آخرون موقفًا، لأن التاريخ لا ينتظر، والشعوب لا تصبر إلى الأبد. حين يرى الناس مأساتهم تُعرض في الخطابات، ولا يُفتح لهم باب الإنصاف، فإنهم سيفقدون الثقة.