حين صار الخبز أغلى من الذهب: المغرب في عام البون

رواية عام البون: مجاعة غيرت تاريخ المغاربة في الأربعينات

عام البون: حين صار الجوع سيّد البلاد

المقدمة: 
الجوع لا يطرق الأبواب، بل يقتحم الأرواح
في منتصف الأربعينات، وبينما كانت أمم العالم تحصي قتلاها في الحرب العالمية الثانية، كان المغرب يعيش حرباً من نوع آخر. حرب صامتة، دون صفارات إنذار أو قنابل، لكنها خلّفت قتلى بالآلاف، ومآسي بالقلوب، وندوباً لا تمحوها السنوات. هذا العام اسمه في ذاكرة الأجداد: عام البون. عامٌ غيّر شكل الحياة، وترك حكايات تُروى على ضوء الشموع في ليالي الشتاء، عندما يشتد البرد ويصير الجوع ذكرى مؤلمة.
العرض: 
حين أكل الناس كل شيء ولم يشبعوا
الاحتلال يقسم الأرغفة
في ذلك الزمن، كان المغرب تحت حكم فرنسا التي أنهكتها الحرب وتبحث عن موارد تنقذها. فكان القرار أن يُنهب المغرب: المحاصيل، الأبقار، الزيت، القمح، حتى اليد العاملة. كل شيء صار قابلاً للتصدير... إلّا الإنسان المغربي الذي بقي يحدّق في أرضه الجرداء وعائلته الجائعة.
فرُض نظام "البون"، وهي ورقة تسمح لصاحبها بشراء حصة محددة من المواد الغذائية. لكنها كانت حصة للذل، وليست للعيش. الفرنسي يحصل على ما يشتهي: لحم، زيت، سكر، بينما المغربي يحصل على أقل القليل، أو لا يحصل إطلاقاً إن لم تكن في جيبه "البون".
سُمي العام أيضاً بـ "عام الصندوق"، لأن الناس كانوا يخبئون الخبز في صناديق مغلقة كأنها خزائن مجوهرات، خوفاً من أن يسرقه جائع أو يفسده هواء.
وجبات اخترعتها الكرامة
لم يكن هناك طعام، لكن هناك أفواه لا تتوقف عن طلبه. فبدأ الناس يخترعون وجبات من المستحيل:
يطحنون أوراق البلوط لصنع "خبز الخروب"
يغسلون نبتة "يرني" السامة لطهيها بعد إزالة تأثيرها القاتل
يجففون الجراد ويقلبونه على نار الفحم كما لو أنه كباب العيد
يسلقون نباتات الأرض العشوائية، ويرشون عليها رماد الحطب بدل التوابل
في بعض القرى، كانوا يأكلون الكلاب والحمير، وحتى القطط، دون أن تنكسر إنسانيتهم، لأنهم كانوا يقاتلون للبقاء فقط.
بل إن البعض اضطر لاستخدام الأكفان القديمة كلباس للأطفال، بعد أن فقد القماش قيمته وصارت الأقمشة مخصصة للأغنياء فقط.
الهجرة ليست إلى الجنة... بل إلى طوابير الجوع
أمام هذا الواقع، هاجر الناس من القرى إلى المدن الكبرى. ظنوا أنهم سيجدون هناك الطعام والأمان، لكنهم وجدوا مشهداً أكثر رعباً:
شوارع مكتظة بأجساد منهكة
أطفال يتوسلون قطعة خبز
جثث يتم دفنها ليلاً خشية أن تنهشها الكلاب الضالة
في الدار البيضاء وحدها، استقبلت أكثر من 100,000 نازح خلال أشهر قليلة، لكنها لم تستطع أن تستوعب المأساة.
عندما صار الموت ضيفاً يومياً
الجوع لم يأت وحده، بل جلب معه أصدقاء: الأوبئة.
التيفوس حصد آلاف الأرواح
الحمى الصفراء انتشرت حتى بين الأطفال الرضّع
السل والطاعون أصبحا يوميات حزينة
السلطات الفرنسية قللت من الأرقام، وقالت إن القتلى لا يتجاوزون 45 ألفاً، لكن الحقيقة، كما يقول المؤرخون، تجاوزت 300 ألف ضحية.
في المناطق الريفية، دُفن الموتى في قبور مجهولة، بدون أسماء، بدون توابيت، كأنهم لم يعيشوا يوماً... لكن الأرض حفظتهم كما تحفظ الأسرار.
الخاتمة: 
ذاكرة الجوع لا تشبع من روايتها
انتهى عام البون، لكن آثاره لم تنتهِ. عاد القمح، وانخفضت الأسعار، وتغيّر النظام الغذائي، لكن الذاكرة الشعبية بقيت مشتعلة. الأجداد يروون تلك الحكايات بدموع حزينة، والأحفاد يسمعون ويشعرون أنهم ينتمون إلى أمة نجت من الموت وخرجت منه أكثر وعياً.
عام البون لم يكن مجرد مجاعة، بل كان بداية الثورة الداخلية ضد الاحتلال، وضد الذل، وضد الصمت. كان عام استيقظت فيه الأرواح، حتى إن كانت الأجساد جائعة.
تعليقات