السلام عليكم
في سنة 1981، تراكمت الأحداث بعد إعلان حكومة المعطي بوعبيد، يوم 20/05/1981، عن زيادة في أسعار المواد الغذائية الأساسية، وذلك بضغط من البنك الدولي. دعت الكونفدرالية المغربية للشغل إلى إضراب عام في البلاد يوم 20/06/1981، احتجاجًا على قرارات الحكومة. وقد خلفت هذه الاحتجاجات العديد من الضحايا، بلغ عدد القتلى 600، وعدد الجرحى 5000. والمقبرة في الصورة أعلاه هي لشهداء تلك الاحتجاجات بالعاصمة الاقتصادية الدار البيضاء.
مدينة خريبكة، عاصمة الفوسفاط، لا فِلاحة فيها ولا زراعة، لا معامل ولا مصانع، وانعدام تام لموارد العيش سوى العمل في الفوسفاط. ولكي تعمل في الفوسفاط يجب أن يتوفر فيك الشرط الوحيد، وهو أن تكون من خارج مدينة خريبكة أو أن تبحث عن وسيط. الحياة في تلك الأيام كانت جد قاسية بالمنطقة، وتوالت الأحداث على المغرب في مرحلة أصبح فيها اليأس يسيطر، وأصبح الأمل خيالًا.
كنت أدرس في السنة الثالثة إعدادي، بإعدادية ابن خلدون. بدأت أفهم معنى المشاكل، وأفكر في طريقة أُعين بها عائلتي الفقيرة. فقد كنا إن تعشينا لا نتغدى، وإن تغدينا لا نتعشى. كنا عائلة فقيرة وكثيرة الأفراد. كنت أوسطهم، أربعة أكبر مني، وخمسة أصغر. تزوجت أختي الكبرى، وتبعتها الثانية في ظرف سنة، فلم يتبقَّ ممن يكبرونني سنًّا إلا واحدة، وهي التي كانت ترافقني إلى السوق الأسبوعي يوم الأحد بخريبكة.
كنت قد تعودت على الذهاب إلى السوق، أحيانًا وحدي، وأعمل مع بائعي الملابس المستعملة، أو أبيع الماء. وعند العصر أذهب وأشتري ما تبقى من الخضر، التي يكون باعة أغلبها من سيدي حجاج والمناطق المجاورة، إذ كانوا يضطرون للسفر عبر القطار، لأنه الوسيلة الوحيدة، فيبيعونها بأرخص الأثمان. وكم من مرة تركوها مضطرين، فكنت أجمع منها أنا وأختي ما نقدر عليه ونعود به إلى البيت.
كنتُ كل يوم أحد أنهض باكرًا أنا وأختي. نذهب إلى السوق، أنا أحمل الجرة مملوءة بالماء على كتفي، وهي تحمل سلة خضر فارغة كي نملأها بعد العصر خضرًا إن وفقنا الله وبعنا الماء. كنت أبيع الماء مثل الكل بثمن 10 سنتيم للكأس، وحين يصل العصر أعدّ النقود. كنت أحصل على 15 أو 20 درهمًا في اليوم، و10 دراهم كانت تملأ القفة بالخضر والبرتقال. ثم إذا كانت الظروف تسمح، أشتري نصف كيلوغرام من لحم رأس البقر، وإن حصل هذا، تكون الأسرة فرحانة، وخاصة أمي المسكينة.
ومما أذكره موقف مؤلم حدث لنا في السوق. في أحد الأيام، طلبت مني أختي أن أشتري لها نقانق، وكنت فرحًا لأنها طلبت مني ذلك. فقلت لها:
"طبعًا، طبعًا. وماذا تحتاجين أيضًا؟ أشتريه لك؟"
قالت: "لا شيء، غير النقانق."
فأخذتها إلى المكان الذي تُباع فيه، ووجدنا شابًا في الثلاثين من عمره يقف بجانب عربته، فسألنا:
"هل تريدون نقانق؟"
قلت: "نعم."
قال لي: "لقد انتهت، ولكن إذا أردت، فأعطني المال، فأنا ذاهب لجلبها من هناك"، وأشار بيده إلى مكان قريب.
أعطيته المال، فاندثر وسط الناس، ثم توارى عن الأنظار واختفى.
بقينا، أنا وأختي المسكينة، ننتظر ما يزيد عن ساعة. وبعدها أيقنت أننا لن نأكل النقانق هذا اليوم.
مثل هذه الأحداث تفطر القلب، لأنك إن كنت تحب أحدًا، فستسعى حتمًا لإسعاده، لكن تنقلب تلك السعادة إلى مأساة تمزق القلب.
وبغض النظر عن الشيء الملموس، وهو النقانق، فهناك أحاسيس أغلى بكثير من مال الدنيا كلها... وهي أن ترى قريبًا لك سعيدًا، مثل أمك، أختك، أو أحد من عائلتك أو صديق تحبه.
توالت الأحداث...
فبعد سنتين، وبالضبط يوم 19 يناير 1984، حدثت انتفاضة شعبية عمّت معظم مدن المغرب. كان اسمها "انتفاضة 1984 بالمغرب"، والتي تُعرف أيضًا بـ"انتفاضة الخبز" أو "انتفاضة الجوع" أو "انتفاضة التلاميذ". اندلعت في 19 يناير 1984 في عدد من المدن المغربية، وبلغت ذروتها في الحسيمة، الناظور، تطوان، القصر الكبير، ومراكش.
كان سكان مدينة خريبكة يتراسلون مع إخوانهم في الدار البيضاء عن طريق قطار الفوسفاط، حيث كانوا يتبادلون الرسائل بأوراق يدسونها خلف الورقة التعريفية للفوسفاط الموجودة في كل عربة من عربات القطار، لأن الهواتف النقالة أو الذكية لم تكن متوفرة آنذاك، ولا التكنولوجيا ككل.
كانت تلك أيامًا اتحدت فيها الكوارث الطبيعية والحكومة والبنك الدولي، كلهم ضد الشعب المغربي. لكن المسألة الوحيدة التي أثارت انتباهي، هي عدم توقف احتفالات عيد العرش، التي كانت تُصرف فيها الملايين، حتى في أيام الجفاف بالمغرب.
كما أُعلن لهذا الجيل (جيل "الراسطا" و"السراول الممزقين" و"السراول طايحين")، أن تلك الحقبة عرفت "الرجال الحقيقيين" المناضلين، وكانت الشهامة وعزة النفس، ولم يكونوا جبناء مثل هذا الجيل...
أما أخي الأكبر، فالتحق بسلك التعليم ببني ملال، وفرحنا به كثيرًا. كنا مغمورين بالفرح، لأن أخانا سيصبح معلمًا وسينقذ العائلة.
في الحلقة القادمة...
أخي المعلم الذي كنا فرحين من أجله...
سيعلّمنا دروسًا تتعلمها فراخ الوقواق بالفطرة وهي لا تزال في البيضة.
يتبع...