حين انكسرت الجرة... ولم ينكسر الأمل

ذكريات الجفاف والمجاعة في مغرب الثمانينات: بين الأم، السوق، والكرامة

السلام عليكم
 توقفنا في الحلقة الماضية في بداية محطة زمنية كانت جد قاسية على كل من يدب فوق ارض المغرب .
ففي سنة 1981 ميلادية، انعدمت فيها الأمطار وأحسّت المملكة بالخطر القادم. خاطب الملك شعبه خطابًا تحسيسيًا، كما أمر بعدم نحر الأضحية يوم العيد. وبدأ القمح الطري يدخل من أمريكا وبعض الدول الأوروبية. تخلّى الفلاحون عن ماشيتهم، التي أصبحت تبحث عن لقمة عيش بنفسها، لأن العلف آنذاك أصبح أغلى من الماشية.
كنت أدرس حينها في إعدادية ابن خلدون بخريبكة، وأسكن في حي النهضة. كنا ما نزال نسكن دور الصفيح، وكاننا محاطين بالمزابل من كل ناحية، فأصبحت الحيوانات تأتي لتقتات منها.
من الطرائف التي مررت بها آنذاك: كنت اخرج في الصباح الباكر  لابحث عن حمار وآتي به قرب البيت قبل موعد المدرسة ، ثم أربطه، وبعد الإفطار أجمع أدواتي وأركب الحمار ذاهبًا إلى إعدادية ابن خلدون. وبعد الوصول أتركه في الخارج يسعى وراء رزقه. وحين أخرج، آخذ غيره لانه كان هناك الصبار امام الاعدادية * الهندية*،و كان بمثابة محطة طرقية لان كثير من الحيوانات كات تاتي لتسد جوعها من جنان الهندية . وهكذا كانت الرحلة ذهاب و اياب ثابثة. وكنت القى في طريقي خرفان هزيلين ونعجات على وشك الموت متخلى عنهم لعدم الاستطاعة .فالانسان اصبح يفكر في العائلة و الاولاد اكثر من الماشية الا ان كلمة  *يتخلى* عن من يحسبوه معيلهم بعد الله و يحبونه لانه يطعمهم و يسقيهم ثم يطردهم على حين غرة لكن لالفهم اياه يعودون ثم يطردهم بالحجارة و هو يتحسر  على حالهم و هذا جد مؤسف .و في الاخير يموتون او تاكلهم الكلاب .
بالنسبة للمعيشة، فقد انعدم الطحين لدى البسطاء، إذ كانت تأتي عربة يجرّها حصان، مملوءة بالدقيق، ويرافقها أربعة رجال أمن وعون سلطة ليحموها حتى تصل إلى صاحب الدكان. والأغرب من هذا أن طريقة التوزيع كانت تُمَارَس فيها استعباد على الفقراء، إذ كان الأمن على رأس القائمة هو المستفيد الأول، ثم صاحب الدكان، ثم زبائنه الدائمون، أما الباقي فكان لكل بيت 5 كيلوغرامات فقط.
كنا 11 فردًا في الأسرة، تعجن أمي مرتين في اليوم، فتنفد الكمية في يومها. لكن الدقيق كان يأتي كل أسبوع، فكيف سنعيش بدون خبز؟
بدأتُ العمل في السوق الأسبوعي لمدينة خريبكة. بدأت ببيع "الميكا" (الأكياس البلاستيكية)، وكنت أجمع الخضر من السوق في نهاية النهار. لكن بيع "الميكا" لم يُجْدِ نفعًا، ففكّرت في جمع المال لشراء "قلة" طين لأنها تبرد الماء. اشتغلتُ في سوقين، ثم اشتريتها، وعدت محمّلًا بالخضر و"القلة" أو "الجرة".
أذكر جيدًا كيف كانت أمي المسكينة تنتظرني بشوق، لأنها كانت تعرف أن أبي لن يأتي بشيء، لأنه لا يشتغل، وإن اشتغل يومًا أو يومين في البناء، يعطي أجرته لصاحب الدكان الذي نستلف منه السكر والزيت و... و...
وحين أصل، كانت تحمل عني وتُعانقني وتشكرني على ما حملت من السوق. ثم تُحضّر لي بعض الأكل وأخرج للعب. مرّ الأسبوع، وجاء موعد السوق الأسبوعي، الذي جهزتُ له "القلة" ملفوفة بقماش وملأتها ليلة السبت.
في الصباح، قالت لي أختي: أريد الذهاب معك. كانت تكبرني بسنة. كنت أبلغ من العمر 14 سنة، فحملتُ بيدها قفّة لنملأها بالخضر بعد أن أبيع الماء. ذهبنا مشيًا على الأقدام، وكانت "القلة" ثقيلة، وحين وصلنا إلى مكان بيع الخضر، أردتُ الصعود درجة واحدة إلى الأعلى (الطروطوار)، فغلب عليّ ثقل "القلة" إلى الوراء، فسقطتُ أنا وهي، فانكسرت، وانكسر معها قلبي...
كنت أنظر في وجه أختي المسكينة، والقفّة في يدها فارغة، فأحسست أنني لم أُهزم لوحدي، بل أنا وأختي وأمي وباقي إخوتي الصغار... بكيت، وأخذت أختي من يدها وعدنا إلى البيت.
كانت أمي تصبّرني وتقول: لا عليك، سيخلفها الله. لم ألعب ذلك اليوم، كنتُ جدّ حزين.
وفي اليوم التالي، كانت بقربنا أرض فيها صبّار، يعني "الهندية" أو "كرموس نتاع الشوك"، وكان ملكًا لرشدي الحاج حسن العبدوني. فصمّمت أنا وصديقي أن نستيقظ باكرًا ونذهب لاكتشاف المكان. دخلنا وبدأنا نجني، وملأنا سطلاً لكل واحد، ثم خرجنا. مررنا بعمال البناء، فطلبوا منا أن نبيعهم، فبعنا وعدنا إلى البيت بـ 15 درهمًا، اقتسمتها مع صديقي، وذهبت جريًا إلى أمي، أعطيتها إياها.
أتدرون لماذا كانت هذه العلاقة بيني وبين أمي؟ لأن كل من أراد أن يأكل كان يطلب منها. كانت مسؤولة، لكن لم يكن لها أي مورد مالي، وكانوا يلومونها إن لم يجدوا ما يأكلونه.
هكذا كان حال المغرب، وأذكر الواقعة التي لا تُنسى: (شهداء الكومير).
يتبع...

تعليقات