الجزء الثاني: معاناة العمال ومواجهة الظلم و جشع المفتش الاقليمي للشغل

عرق المستضعفين 

السلام عليكم
قد تبدو الصورة جميلة في عينيك، وقد تتخيلها في خيالك كأنها قطعة من الجنة، لكن هذه الصورة الرائعة لم تُبنَ إلا بعرق المستضعفين ومعاناتهم قبل أن تكون نتيجة اجتهاد وكفاح من صاحب الضيعة. كنتُ إذا دخلت حقولها الشاسعة، أرى الفواكه بألوانها المختلفة تتجلى فيها عظمة الخالق. كنت أشعر وكأنها جنة الدنيا، إذ كانت تحوي جميع الأصناف التي تشتهيها الأنفس. وعمليًا، يعود الفضل في ذالك إلى العمال، منهم الأطر وعمّال الحقول. 
كنت أسهر الليالي في أيام العواصف الرعدية، لأنني كنت مسؤولًا عن تشغيل المدافع المضادة للرعد. في بعض الأحيان، كنت أكون مريضًا، لكن مرضي لم يكن عذرًا للتساهل في مهمتي. فإن قصّرت أو تهاونت، لن يكون هناك إنتاج بعد أن كان قد بدأ ينضج. وبين عشية وضحاها، قد يتحول المحصول إلى حطام على الأرض، أو إن بقي على الأشجار، يتركه البرد -أو ما يسمى بالتبروري- مخدوشًا بندوب تجعله غير صالح للبيع. لكن، الحمد لله، خدمتُ في تلك الضيعة طيلة ثماني سنوات من عمري، ولم تحدث خسارة طوال تلك المدة. 
عندما غادرت الضيعة إلى الأبد، أوكلوا مهمة تشغيل المدافع إلى الحارس الليلي، وكان شيخًا خفيف الحركة يُدعى عسو. كان يصلي فوق حائط ارتفاعه متران وسمكه أربعون سنتيمترًا. كلما رأى السحب القادمة، كان يُشغّل المدافع من المكتب، لأنهم استبدلوا التحكم بالراديو بتحكم يدوي، وكان مقبسه في الإدارة. في إحدى المرات، شغّل المدفعين وتركهما يعملان حتى احترق أحدهما، وتوقف الآخر عن العمل إلى يومنا هذا. ولولا لطف الله، لكانت قنينات الأسيتيلين قد انفجرت، ويا لخطورة ذلك!
كما قلت، كنت أعرف معنى المسؤولية. كنت أعمل يوميًا، حتى في يوم الراحة الذي كان يأتي كل خمسة عشر يومًا. كنت أذهب إلى السوق بالجرار يوم الخميس باكرًا، ثم أعود للعمل. بدأت أطالب بزيادة في الأجرة، لكن صاحب العمل لم يعرني اهتمامًا، ولا المدير، ولا حتى الفرنسي المسؤول عن الضيعة. استمر طلبي هذا ثلاث سنوات، فكنت غاضبًا من اللامبالاة، وكذلك من السيد مفتش العمل، الذي هو بطل هذه الحلقة. تابعوا معي الحوار الذي دار بيني وبينه:
ذات يوم، جاء مفتش العمل، وكان حميد الراجي صاحب الضيعة موجود هناك، أحد ورثة المرحوم الحاج حسن الراجي. كان  بعض رجال الدرك الذين يأتون للتسول في الضيعة، فذهبوا جميعًا وبقي مفتش العمل بعد الظهر، ينتظر عودة حميد ليمنحه الرشوة المتفق عليها كالعادة. كنت قد عدت للعمل بعد وجبة الغداء، فرأيت سيارته، و كنت قد تسببت في ثقب عجلتيها قبل أن أذهب. رأيته جالسًا في قاعة الانتظار أمام مكتب الفرنسي، وكان المكان عبارة عن سقف فوق أعمدة أسمنتية، محاط بحائط ارتفاعه متر واحد، ما عدا الباب الذي كان محجوبًا بالنباتات، أو ما يُسمى "اللواية". 
لم أسلم عليه، وأكملت طريقي إلى المخزن حيث أعمل. في طريقي، وجدت شبابًا يعملون هناك، منهم عبد الرحيم وعبد الغني وعمر وغيرهم. قلت لهم: "تعالوا معي وانتظروا بالخارج، واستمعوا إلى الحوار الذي سيدور بيني وبين مفتش العمل". قلت ذلك لأنهم كانوا يخافون من الطرد، لكنني أقسمت أن أصحح الأمر وأضعه في مساره الصحيح، ولو بمفردي. أردت منهم فقط أن يشهدوا على ما سمعوه. 
دخلت إليه وقلت: "السلام عليكم". رد السلام، فسألته: "من أنت؟" فأجابني: "ومن تكون أنت؟" قلت: "أنا المسؤول عن أمن الضيعة بالنهار، ومن واجبي أن أسأل أي غريب عن حاجته، فإن كان له حاجة نقضيها له، أو إن كان لصًا نعتقله". فابتسم وقال: "لا، لا، أنا مفتش العمل الإقليمي، مسؤول عن إفران ومكناس". فقلت: "ومن أين لي أن أعرف أنك صادق؟" فأعطاني بطاقته، وقرأت ما فيها من معلومات، وكانت صحيحة. 
كان أصدقائي يستمعون ويضحكون بصوت خفيف. قلت له: "هذه البطاقة عليك أن تمزقها، فهي لا تليق بك". فقال: "لماذا؟" فقلت: "لأن مهنتك شريفة، وستُسأل أمام الله عن هؤلاء المستضعفين الذين تعيش أنت وأسرتك من عرقهم ولا تستحي". فاحمر وجهه وصمت. أردفت قائلًا: "أنت لا تعرف أن العمال هنا، حين يرونك تغادر الضيعة محملاً بالفواكه والنقود، يتمنون قتلك وقطع أطرافك. أنت لا تعلم أنني كنت دائمًا أحدث ثقبًا في إطارات سيارتك، وأتفرج عليك وأنت تصلحها، وأنت غارق في العرق والأوساخ، تتحمل ذلك من أجل الفواكه والمال الوسخ. أنت لا تعرف أن من العمال من أصيب بعاهات مستديمة، ثم أعطوه ثلاثة آلاف درهم ومنعوه من دخول الضيعة إلى الأبد. لا يهمك سوى نفسك وأسرتك، ولا يهمك إن كان ما تأكله حلالًا أم حرامًا. لكننا لم نعد نطيق الصبر على جشعك. إن لم تتوقع أن يكلمك أحد في هذا الموضوع، فهذا لا يعني أن الكل هنا أمي لا يفقه شيئًا في القانون. إن عدت قبل أن تسوي أوضاع العمال، فلن تخرج من الضيعة سالمًا في المرة القادمة، ولن يحميك لا صاحب الضيعة ولا الدرك الملكي. لذا، أنصحك أن تكون رؤوفًا بالعمال وبنفسك، فقد وصل السيل الزبى".
توقفت عن الكلام، وصمت أصدقائي. من حركاته، عرفت أنه كان خائفًا ويبحث عن مخرج من هذا المأزق. فهو في منطقة نائية، وحيدًا، وقد يتخيل أشياء مرعبة يمكن أن يتعرض لها. ثم تنهد وقال: "يا ابني، نحن في عملنا نتعامل مع أرباب العمل كأنهم أطفالنا، نعلمهم، وإن نسوا نذكرهم، وان كرروا النسيان نضربهم". فقلت له: "عليك بضرب صاحب الضيعة قبل أن تصيبك الضربة، فقد كنت أراك هنا منذ مجيئي، وقد مرت سنين ولم تغير شيئًا. لذا، نُحذرك، واعلم أنها المرة الأخيرة". فقال لي: "حسنًا، سأفعل". 
تركته، وكان أصدقائي لا يزالون هناك. قلت لهم: "أبشروا، ستتحسن أوضاعكم". فقال لي أحدهم، وهو صديقي عمر: "أبشر، سيطردك حميد صاحب الضيعة " وضحك. لكنني تركت الضيعة قبل أن يطردني، المهم أن أوضاع العمال قد تحسنت، وهم الآن في أحسن حال، والحمد لله. في عام 2012، سافرت أنا وأسرتي الصغيرة  لزيارة صهري في عين معروف، وذهبت بالسيارة إلى الضيعة، وسلمت على القليل من العمال الذين وجدتهم هناك، مثل عمر وعبد الرحيم وجامع وشاب يُدعى خالد يعمل مع عمر في السقي. أخبروني أن أمورهم أصبحت أفضل الآن، والحمد لله.

تعليقات