قصة انطلاقة ابن بطوطة: الخطوة الأولى نحو المجهول
في صبيحة يوم مشمس في الرابع عشر من رجب 725هـ (يونيو 1325م)، وقف محمد بن بطوطة، الشاب الطنجي البالغ من العمر 21 عامًا، على عتبة منزل عائلته في طنجة. كان قلبه ينبض بحلم كبير: أداء فريضة الحج إلى مكة. لم يكن يدرك أن هذه الخطوة ستُغير مسار حياته إلى الأبد، وتجعله أسطورة الرحالة. اليوم، كان عليه أن يودّع أمه وأباه، ويترك وراءه أمان المدينة الساحلية الهادئة ليواجه المجهول.
كيف سافر؟ راكبًا، لكن بتواضع:
لم يكن ابن بطوطة يملك ثروة طائلة، فهو ابن عائلة متوسطة الحال من الطبقة المتعلمة. اشترى بغلًا متواضعًا ليحمل زاده ومتاعه القليل: بعض الملابس، نسخة من القرآن، وقليل من الدراهم للنفقة. لم يكن لديه خيول فارهة أو جمال قوية كالتجار الأثرياء، بل اعتمد على هذا البغل البسيط الذي أطلق عليه لاحقًا لقب "رفيق الدرب". في بعض اللحظات، كان يسير على قدميه ليريح البغل، خاصة عندما تكون الطرق صخرية أو ضيقة. كان السفر في تلك العصور يعتمد على التحمل، والطرق بين مدن المغرب لم تكن معبدة، بل مجرد ممرات ترابية مليئة بالغبار والمخاطر.
هل كان وحيدًا أم مع رفاق؟
غادر ابن بطوطة طنجة وحيدًا، دون رفاق مقربين أو أصدقاء. في كتابه "تحفة النظار"، يصف شعوره بالوحدة والحنين وهو يبتعد عن أهله، قائلاً: "غلبني الشوق والبكاء لفراق والديَّ، لكنني عزمت على السفر." لم يكن معه أحد من عائلته، لكنه لم يبقَ وحيدًا طويلاً. بعد يومين من السفر، وعلى الطريق إلى مدينة سبتة (قبل التوجه شرقًا)، التقى بمسافرين آخرين: تاجر مغربي عجوز يدعى الحاج يونس، وابنه الشاب عبد الرحمن. كانا متجهين إلى تلمسان لبيع الأقمشة، وسمحا لابن بطوطة بالانضمام إلى قافلتهما الصغيرة. هذه الرفقة كانت نعمة، لأن السفر بمفرده كان خطيرًا بسبب قطاع الطرق والحيوانات البرية.
التحديات والمخاطر: مواجهة الأخطار الأولى
الطريق من طنجة إلى تلمسان، الذي يمتد عبر جبال الريف وسهول شمال إفريقيا، لم يكن سهلاً. واجه ابن بطوطة سلسلة من التحديات التي اختبرت شجاعته وصبره:
خطر اللصوص:
في اليوم الثالث من رحلته، وبينما كانت القافلة تقترب من غابة صغيرة قرب مدينة تطوان، لاحظ الحاج يونس، الذي كان خبيرًا بالطرق، حركة مشبوهة بين الأشجار. كان هناك ثلاثة من قطاع الطرق يتربصون بالمسافرين، يحملون عصيًا وسكاكين صغيرة. تصرف التاجر بحكمة، وأمر الجميع بإشعال نار كبيرة والتظاهر بأنهم مجموعة كبيرة. ابن بطوطة، الذي لم يواجه مثل هذا الموقف من قبل، شعر بالرعب، لكنه أمسك بعصا ووقف بجانب عبد الرحمن. صرخ الجميع ولوحوا بالنار، مما أخاف اللصوص ودفعهم للهروب. هذه كانت أول مواجهة لابن بطوطة مع خطر السفر، وعلّمته أهمية اليقظة والعمل الجماعي.
الإرهاق والجوع:
لم يكن ابن بطوطة معتادًا على السفر الطويل، وسرعان ما شعر بإرهاق شديد. كان زاده يتكون من خبز جاف وزيتون وقليل من التمر، لكن الماء كان نادرًا في بعض المقاطع. في إحدى الليالي، نفد الماء من قربته، واضطر للاعتماد على بئر صغير وجده مع القافلة، لكن الماء كان عكرًا وله طعم غريب. وصف هذا في كتابه بقوله: "كنت أظن أنني لن أتحمل، لكن الله ساق إليّ الرفقة والعون."
الوحدة والحنين:
على الرغم من رفقة التاجر وابنه، كان ابن بطوطة يعاني من وحدة داخلية. في الليل، وبينما كان ينظر إلى النجوم، كان يفكر في أمه ويتساءل عما إذا كان سيراها مجددًا. هذا الحنين جعله يكتب لاحقًا أن "السفر يكشف معادن الرجال"، لأنه اختبر قوته النفسية في هذه اللحظات.
لحظة مشوقة في تلمسان:
بعد أسبوع من السفر، وصلت القافلة أخيرًا إلى تلمسان، المدينة المزدهرة في غرب الجزائر. هنا، حدث موقف طريف ومثير يُظهر شخصية ابن بطوطة الفضولية. استقبله أحد العلماء المحليين، الشيخ أبو عبد الله، في داره. خلال العشاء، قدمت لهم أطباق من الكسكس مع لحم الضأن، وكان ابن بطوطة جائعًا للغاية بعد أيام من الطعام البسيط. لكنه، في حماسه، أسقط قطعة كبيرة من اللحم على ثوبه النظيف، مما أثار ضحك الحاضرين! حاول تغطية الموقف بابتسامة، لكنه شعر بالحرج. الشيخ، بلطفه، طمأنه وقال: "لا عليك، يا ابن طنجة، فالسفر مدرسة الصبر والضحك!" هذا الموقف جعل ابن بطوطة يشعر بأنه جزء من عالم جديد، حيث يتعلم من كل تجربة.
في تلمسان، قضى بضعة أيام يستمع إلى دروس الشيخ عن الفقه المالكي، وأُعجب بالأسواق المزدحمة والمساجد الجميلة. لكنه كان حريصًا على مواصلة الرحلة، فقد كان حلمه الوصول إلى مكة يدفعه للأمام. غادر تلمسان مع قافلة أكبر متجهة إلى تونس، وهو الآن أكثر ثقة بنفسه بعد أولى تجاربه.
ما الذي حمله معه؟
زاد مادي: خبز، زيتون، تمر، ماء في قربة جلدية، وقليل من المال.
زاد معنوي: نسخة من القرآن، ودعوات أمه التي رافقته، وشغف لا نهائي بالاستكشاف.
مهارات: معرفة بالفقه واللغة العربية، وقدرة على التكيف مع الناس.
انطباعاته الأولى:
أدرك أن السفر ليس مجرد تنقل، بل اختبار للجسد والروح.
أُعجب بكرم أهل تلمسان، لكنه لاحظ أن الطرق غير آمنة إلا مع القوافل.
شعر أن العالم أوسع مما تخيل، وهذا زاد من عزيمته لمواصلة الرحلة.
هذه القصة ليست مجرد بداية رحلة، بل لحظة تأسيسية لأسطورة ابن بطوطة. واجه فيها الخوف من اللصوص، الجوع، الإرهاق، والحنين، لكنه خرج منها أقوى، مع درس أولي: السفر يتطلب شجاعة، حذرًا، وروحًا فضولية. من تلمسان، سيواصل طريقه إلى تونس، ثم القاهرة، وصولاً إلى مكة، لكن هذه الخطوة الأولى كانت الشرارة التي أشعلت مغامرة عالمية.