ابن بطوطة مغامرة إلى مكة والشام والعراق وفارس
الانطلاق من طنجة: نداء الطريق
في ربيع عام 1326م، وبعد أشهر قليلة من عودته إلى طنجة من رحلته الأولى إلى مكة، شعر ابن بطوطة، الشاب الطنجي البالغ من العمر 22 عامًا، بأن روحه لا تهدأ. كان قد ذاق طعم السفر في رحلته الأولى، فأصبحت الطرقات بالنسبة له بمثابة نداء لا يقاوم. تحت ضوء القمر الذي انعكس على مياه البحر المتوسط، قرر مغادرة طنجة مرة أخرى، متجهًا إلى مكة لأداء الحج ثانية، لكنه كان يحلم أيضًا باستكشاف بلاد الشام والعراق وفارس، وربما أبعد من ذلك.
غادر طنجة على ظهر بغلة متواضعة، حاملاً زادًا خفيفًا وحلمًا كبيرًا. سلك الطريق إلى ميناء سبتة، حيث استقل سفينة تجارية عبر البحر المتوسط متجهة إلى الإسكندرية في مصر. كانت الرحلة البحرية مليئة بالتحديات؛ فقد هبت عاصفة عاتية في إحدى الليالي، جعلت السفينة تتمايل كأنها لعبة في يد البحر. ظل ابن بطوطة يردد الأدعية، مطمئنًا رفاقه من التجار والبحارة، حتى هدأت الأمواج وأرسى المركب في ميناء الإسكندرية.
الإسكندرية: بوابة المغامرة ولقاء الشيخ البرهان الدين
وصل ابن بطوطة إلى الإسكندرية، المدينة الساحلية النابضة بالحياة، التي وصفها بأنها "ميناء العالم". أُذهل بمنارة الإسكندرية الشهيرة، التي كانت لا تزال قائمة آنذاك، ترسل ضوءها لترشد السفن في الظلام. تجول في أسواق المدينة المزدحمة، حيث اختلطت روائح التوابل الهندية بأصوات التجار البندقيين والمغاربة. تذوق أطباقًا محلية مثل السمك المحشو بالتمر واللوز، وسمع قصص البحارة عن مغامراتهم في بحار الشرق البعيد.
في أحد الأيام، وبينما كان يتجول بالقرب من أحد المساجد، سمع عن شيخ صوفي يُدعى البرهان الدين العريان، رجل اشتهر بتقواه وكراماته. دفع الفضول ابن بطوطة إلى زيارة الشيخ في زاويته المتواضعة على مشارف الإسكندرية، وهي بناء بسيط من الطين محاط بحديقة صغيرة تفوح منها رائحة الياسمين. يروي ابن بطوطة أن الشيخ كان رجلاً طاعنًا في السن، ذا لحية بيضاء ونظرة ثاقبة، يرتدي ثوبًا بسيطًا لكنه يحمل هيبة تجعل القلوب تهتز.
استقبل الشيخ البرهان الدين ابن بطوطة بحفاوة، وسأله عن قصته وهدف سفره. أخبره ابن بطوطة عن رغبته في الحج وزيارة بلاد الشام والعراق. استمع الشيخ باهتمام، ثم نظر إليه بعمق وقال كلمات غيّرت مسار تفكيره:
"يا محمد، إني أراك رجلاً سيطوف العالم. ستزور بلاد الهند والسند والصين، وستلتقي بإخواني هناك. فإذا وصلت إليهم، فأبلغهم مني السلام."
أُذهل ابن بطوطة بهذا التنبؤ. لم يكن قد خطط بعد للسفر إلى الهند أو الصين، بل كان هدفه مكة وبعض المدن القريبة. لكنه شعر بأن كلام الشيخ ليس مجرد حديث عابر، بل كأنه إلهام إلهي. سأل: "كيف سأعرف إخوانك؟"، فأجاب الشيخ بابتسامة: "ستعرفهم بقلبك، فهم أهل الله." ثم أهداه الشيخ بعض التمر المجفف وقطعة خبز، ودعا له بالسلامة في رحلته. غادر ابن بطوطة الزاوية وهو يشعر بمزيج من الدهشة والحماس، إذ أصبح يرى في رحلته مهمة أكبر من مجرد الحج.
دمشق: قلب العالم الإسلامي
من الإسكندرية، سافر ابن بطوطة برًا إلى دمشق، عاصمة الأمويين السابقة ومركزًا ثقافيًا وعلميًا في القرن الرابع عشر. أُعجب بالجامع الأموي، الذي وصفه بأنه "أعظم مساجد العالم"، بقبته الضخمة وأعمدته الرخامية اللامعة. أمضى أسابيع في حلقات العلم، يناقش الفقه المالكي مع العلماء، ويستمع إلى قصص شعبية عن السندباد والجن في أسواق المدينة. في دمشق، تزوج من امرأة من عائلة شريفة، لكن نداء الطريق كان أقوى من رباط الزواج، فتركها وانضم إلى قافلة متجهة إلى مكة.
مكة: الحج واللقاءات الملهمة
وصل ابن بطوطة إلى مكة في موسم الحج، حيث طاف حول الكعبة المشرفة وشعر بسكينة عظيمة. كتب عن الجموع الغفيرة من الحجاج القادمين من أصقاع العالم الإسلامي، وكيف كانت مكة مركزًا يجمع الثقافات واللغات. التقى بتجار من الهند وبلاد السند، يروون قصصًا عن مدن ذهبية وأسواق تفيض بالتوابل والحرير. هذه القصص، إلى جانب تنبؤ الشيخ البرهان الدين، أشعلت في قلبه رغبة في استكشاف الشرق.
العراق وفارس: مغامرات في أرض الأساطير
بعد الحج، قرر ابن بطوطة ألا يعود مباشرة إلى طنجة، بل أن يستكشف العراق وفارس. انضم إلى قافلة تجارية متجهة إلى البصرة عبر طرق صحراوية شاقة. في إحدى الليالي، هاجم لصوص القافلة، لكن ابن بطوطة، بحنكته، ساعد في تنظيم الحراسة وصد الهجوم، مما أكسبه احترام رفاقه. في بغداد، زار المدرسة المستنصرية واستمتع بجمال نهر دجلة، لكنه لاحظ آثار الدمار التي خلّفها المغول عام 1258م. التقى بأمير محلي دعاه إلى وليمة فاخرة، حيث قدمت أطباق من الأرز المتبل بالزعفران واللحم المشوي.
من العراق، واصل إلى أصفهان في فارس، حيث أُذهل بالمساجد ذات القباب الزرقاء المزخرفة وأسواق السجاد الفاخر. في شيراز، زار ضريح الشاعر حافظ الشيرازي، واستمع إلى قصائد تُتلى تحت ظلال الأشجار. التقى بتجار هنود أخبروه عن بلاط السلطان محمد بن تغلق، مما زاد من شغفه لزيارة الهند في المستقبل.
تحديات الطريق
لم تكن الرحلة خالية من الصعوبات. في طريقه عبر الصحراء بين العراق وفارس، أصيب ابن بطوطة بالحمى، وظن أن نهايته اقتربت. لكن طبيبًا بدويًا عالجه بالأعشاب، فتعافى بفضل العناية الإلهية. كما واجه مشكلات مع قبائل طالبت بضرائب باهظة لعبور أراضيها، لكنه تفاوض معهم بلباقة وتجنب الصراعات.
العودة إلى طنجة
بعد سنوات من التجوال، قرر ابن بطوطة العودة إلى مكة لأداء الحج مرة أخرى، إذ كانت مكة بالنسبة له ملاذًا روحيًا وبوابة للقاء المسافرين. من مكة، زار المدينة المنورة، حيث أمضى أيامًا في التأمل والصلاة بالمسجد النبوي. ثم انضم إلى قافلة عائدة إلى دمشق، مرورًا بمدن صغيرة في الحجاز والشام. من دمشق، اتجه شمالًا إلى حلب، حيث استمتع بأسواقها وقلعتها الشهيرة. ثم واصل إلى الساحل الشامي، واستقل سفينة من طرابلس (لبنان الحالي) إلى تونس.
في تونس، استراح لبضعة أيام، يتبادل القصص مع التجار المحليين، ويتذوق أطباقًا مثل الكسكس المتبل باللحم. ثم استقل سفينة أخرى إلى سبتة، ومنها عاد برًا إلى طنجة حوالي عام 1330م. عند وصوله، وجد المدينة هادئة كما تركها، لكنه شعر بغربة داخلية. كان قد أصبح رجلاً يحمل في قلبه ذكريات مدن بعيدة وثقافات متنوعة، وفي عقله أحلامًا برحلات أكثر طموحًا.
قرار السفر مجددًا إلى مكة
في طنجة، أمضى ابن بطوطة بضعة أشهر يروي مغامراته لعائلته وأصدقائه. لكنه سرعان ما شعر بالضيق من الاستقرار. كانت كلمات الشيخ البرهان الدين ترن في أذنيه: "ستزور بلاد الهند والسند والصين." كما أن قصص التجار الهنود التي سمعها في مكة وشيراز عن بلاط السلطان محمد بن تغلق أثارت فضوله. في أواخر عام 1330م أو أوائل 1331م، قرر السفر مجددًا إلى مكة، كجزء من رحلته الثالثة.
كان هدفه هذه المرة ليس فقط الحج، بل التخطيط لرحلة أكبر إلى الهند والصين. غادر طنجة عام 1331م تقريبًا، متجهًا إلى مكة عبر الإسكندرية والقاهرة ودمشق، لكنه كان ينوي مواصلة الرحلة شرقًا عبر الخليج العربي، وهو ما تحقق لاحقًا في رحلته الثالثة.
أهمية قصة الشيخ البرهان الدين في الرحلة
لقاء الشيخ البرهان الدين في الإسكندرية كان نقطة تحول في الرحلة الثانية. تنبؤه بأن ابن بطوطة سيصل إلى الهند والصين أعطى رحلته بعداً روحياً وطموحاً أكبر. كتب ابن بطوطة لاحقًا أنه عندما وصل إلى الهند والصين في رحلاته اللاحقة، التقى بشخصيات صوفية ذكّرته بكلام الشيخ، وشعر بأنه يحمل رسالة منه. هذه القصة أضافت إلى مغامراته إحساسًا بالهدف الإلهي، جعلته يرى نفسه سفيرًا للقاءات الروحية عبر العالم.
يتبع .......
و السلام عليكم و رحمة الله .